سواء بشكل مقصود أو غير مقصود، تسبب الرئيس الأميركي دونالد ترامب في تشويه الأدوار التقليدية لوسائل الإعلام. فالصحفيون والمراسلون يشددون على أنهم ملتزمون بقيود الموضوعية، لكن سلسلة الهجمات التي يشنها الرئيس على أركان المؤسسة، تثير ردودَ فعلٍ تؤكد بالضبط ما يعتقده أنصارُ ترامب منذ بعض الوقت: كائنات «المستنقع» تنتمي إلى جمعية سرية هم مقصيون منها!
وعندما يعبّر رموزُ أجهزة الاستخبارات وقادة الجيش المتقاعدون عن تضامنهم مع أبرز الأشخاص الذين يستهدفهم الرئيس، أولئك الذين تم سحب تصاريحهم الأمنية أو تقليصها، يجد أنصار ترامب في ذلك تأكيداً على وجود «الدولة العميقة» وتضامنها فيما بينها. ثم عندما يظهر أولئك الأشخاص المستهدَفون على عدد من برامج القنوات التلفزيونية، ويشجعون بلطف على التنديد بالرئيس وبسياساته وبوطنيته، فإن ذلك لا يؤدي إلا إلى تكريس قناعات قاعدة ترامب السياسية وتقويتها.
وعلاوة على ذلك، فإن مظهرَ الموضوعية الصحفية يتضرر، بكل تأكيد، بسبب حقيقة أن قوائم ضيوف البرامج التلفزيونية التي تضم بعضاً من أكثر منتقدي الرئيس تشدداً، تشمل كذلك مجموعةً من الصحفيين الذين ينتمون إلى كبريات الصحف ووكالات الأنباء. ذلك أنهم موجودون هناك بشكل يومي، منذ ما قبل الفجر على برنامج «مورنينغ جو» الذي يبث على قناة «إم إس إن بي سي» إلى بداية المساء على برنامج «ذا سيتويشن» الذي يقدمه وولف بليتزر على قناة «سي إن إن».
وبالنسبة لجمهور المشاهدين المقتنعين أصلاً بأن ترامب يمثل تهديداً لأسس الديمقراطية الأميركية، فإن الظهور في تلك البرامج يرقى إلى مباركة من قبل بعض أكبر قساوسة الصحافة. غير أنه بالنسبة لأنصار ترامب، يُعتبر ذلك مصدراً لـ«الأخبار الكاذبة» والمشتبه فيها، تحديداً لأن تغطيته تركز بشكل روتيني، وأحياناً بشكل حصري، على الجوانب السلبية لشخصية الرئيس وسلوكه.
ويا له من نموذج مشرق لجو جيوسياسي: ذلك أن ترامب تمكن من تحويل الأدلة التي تنشرها وسائل الإعلام حول زلاته الكثيرة إلى تأكيد على مظلوميته. وعندما يُدفع ذاك التصور إلى أبواق الإذاعة المحافظة، وخاصة رائدها ومؤسسها راش ليمبو، وعندما تتم بلورة الرسالة على برنامج «فوكس آند فراندز» في الصباح ومن قبل برنامج «شون هانيتي شو» في المساء، فإنها تتحول إلى ما قاله محامي الرئيس رودي جولياني من أن «الحقيقة ليست هي الحقيقة».
والواقع أن جزءاً من العلاج الصحفي يكمن في خفض الحرارة وخفض الصوت. غير أن المشكلة تكمن في أنه بالطبع ليس ثمة قصة خبرية تضاهيه. فالعالم من دون ترامب، أو بالأحرى عالماً بحضور أقل طغياناً لترامب، سيكون مكاناً أكثر رتابة ومللاً! والحال أن الصحافة بطبيعتها لا تزدهر مع الرتابة. لذلك، فإن مفارقة رئاسة ترامب هو أن حديتها أعادت تنشيط الصحافة، حتى وإنْ كانت تعمل على تقويضها في الوقت نفسه.
وخلاصة القول هي أن التوهم بأن الأمور ستعود إلى الوضع الطبيعي بعد ترامب، هو مجرد توهم، البلاد كانت دائماً منقسمة، سواء حول العرق أو الهجرة، أو حول الهوية الجنسية، أو حول المساواة بين الجنسين، أو حول شبكات السلامة الاجتماعية، أو حول العلاقات الخارجية. والصحافة كانت دائماً تتقوى بالخلافات حول هذه الموضوعات. وما أضافه ترامب للمعادلة هو فهمٌ غريزي للإنترنت وقدرتها على جعل وسائل التواصل الاجتماعي (تويتر وفيسبوك) أدواتٍ للغضب الجماعي يَسهل الوصول إليها. إنه فقط المتلاعب الكبير الأول الذي استخدم الأداة من أجل تحقيق مكاسب سياسية، ولن يكون الأخير.

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»