كما أن هناك معوقات ثقافية وسياسية وأيديولوجية أمام الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية، هناك أيضاً معوقات اجتماعية، تشمل الموانع الإدارية والمهنية من ممارسة حرية الفكر والبحث العلمي، والتنازل عنها أحياناً لصالح الترقي الوظيفي أو لصالح سوق العمل وكسب الرزق والمعاش. فالأستاذ الجامعي، خاصة بعد تعيينه عميداً وترقيته إدارياً، يبقى قاب قوسين أو أدنى من الوزارة أو رئاسة الحكومة، فيتنازل عن حريته طواعيةً. ولقاءَ ذلك قد ينال الترقية العلمية إدارياً دون المرور باللجان العلمية المتخصصة، إذ ثمة حاجة إليه أستاذاً ورئيساً ووزيراً وليس عالماً ومبدعاً.
وهكذا تحوَّل دور أساتذة الجامعة في مجتمعات نامية كثيرة من البحث العلمي إلى التسابق على المناصب الإدارية والسياسية، وأصبح الدخلاء على المجال الأكاديمي هم الأكثر حظوة.
والحقيقة أن الأستاذ هو العالم وليس رئيس القسم أو عميد الكلية أو رئيس الجامعة. المنصب الإداري إخراج له من زمرة العلماء والباحثين.
وإن لم يستطع أستاذ الجامعة الهجرة إلى الخارج، فإنه يهاجر إلى الداخل عن طريق التكسب بالعلم، فيقْصر رسالته على وضع الكتب الجامعية المقررة، يبيع فيها العلم مرتين، مرة في محاضراته الشفاهية للمؤسسة التعليمية الرسمية، ومرة أخرى في كتبه المدونة للطالب. وقد يضيف إلى ذلك الدروس الخصوصية في الكليات العملية، لتصبح الجامعة استمراراً للمدرسة الثانوية التي لا يأخذ الطالب شهادتها إلا بالدروس الخصوصية. ويحرص الأستاذ على أكبر عدد ممكن من ساعات التدريس والانتدابات. وكما وُجد الأستاذ «الكرسي»، هناك الأستاذ «التاكسي» الذي ينتقل من معهد إلى آخر، ومن جامعة إلى أخرى، لإلقاء الدروس.. لكن متى يبحث هذا الأستاذ؟ ومتى يؤلف؟ ومتى يمارس حريته الأكاديمية؟
إنه يتنازل عن ذلك كله لصالح الكسب والمعاش وتربية الأولاد. فإن سُدَّ أمامه الطريق في الداخل وزادت الأعباء، فالإعارة إلى الخارج هي الملجأ الأخير. وقد ينتهي الأمر بالاستقالة من جامعته الوطنية وتحويل الإعارة إلى وظيفة دائمة، فيحجُب الرزقَ عن زملائه، وينعم هو برغد العيش الدائم!
والحقيقة أن هناك فرقاً بين تحسين الحال المعيشي وبين تحول سعة الرزق إلى هدف بحد ذاته. تكفي الحياة الكريمة لممارسة حق النقد وحرية التفكير داخل الوطن وخارجه، دون خوف من فسخ عقد العمل وإنهاء الإعارة. العلم قضية وليس حرفة، رسالة وليس مهنة. والمعاناة من تدني الدخول أفضل من هجرة العقول. ليس الهدف من العلم التكسب به، بل ممارسة حرية التعلم والتعليم من أجل التقدم ونقل المجتمع كله من مرحلة تاريخية إلى أخرى.
ليست مهمة الجامعة تخريج مهنيين أكفاء، فتلك مهمة المدارس المهنية العليا والمتوسطة والمعاهد الفنية، بل مهمتها خلق العالم والمفكر والناقد. لذلك تعجز الجامعات الخاصة عن القيام بهذا الدور. فقد قامت بدافع الربح واستثمار الأموال، ولتزويد طلابها بالقدرات المهنية طبقاً لحاجة السوق. المهمة الأصيلة للجامعة هي البحث العلمي، وخدمة المعرفة الإنسانية.
لقد شيد «المفكرون الأحرار» فجر النهضة العربية، وآتت أكلها في العصر الليبرالي العربي خلال النصف الأول من القرن العشرين، ثم تبعهم «الضباط الأحرار» الذين قادوا تجربة العرب القومية والاشتراكية في النصف الثاني من القرن العشرين. ومنذ عقدين أو ثلاثة يحن العرب إلى العصر الليبرالي والجامعة الحرة لتأسيس نهضة عربية ثانية تستفيد من تجربتها الليبرالية الأولى. فالجامعات هي وعاء الشعوب ومصدر تطورها.
الحريات الأكاديمية في العالم العربي ليست قضية مهنية صرف، بل هي مسألة حيوية للمجتمعات وتجلياتها في النظم الإدارية والاجتماعية. ليست القضية تعليمية فحسب، بل هي قضية تتعلق بالمجتمع ككل.

*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة