حاول الرئيس الأميركي دونالد ترامب بكل ما أوتي من قوة تقويض ما يصفه بـ«مطاردة الساحرات المدبرة»، لكن بالنظر إلى الدليل الذي جاء به أحدث استطلاع للرأي أجرته «واشنطن بوست» و«إي بي سي نيوز»، فإن مسعاه لم يبلغ غايته: ذلك أن 36? فقط ممن شملهم الاستطلاع راضون عن الرئيس، فيما يؤيد 49? عزله، ويدعم 63? التحقيق الذي يجريه المحقق الخاص روبرت مولر. وعلى افتراض أن استطلاع الرأي لا يعكس الواقع بدقة، فإنه يشير إلى أن الجسم السياسي يرفض العدوى الترامبية.
دليل إضافي على ذلك الرفض جاء السبت الماضي أثناء الجنازة المؤثرة للسيناتور جون ماكين (الجمهوري عن ولاية أريزونا) في الكاتدرائية الوطنية بواشنطن. الوسط السياسي برمته -ديمقراطييه وجمهورييه معاً- اجتمع من أجل تكريم بطل أميركي. رئيسان سابقان تحدثا، ورئيس ثالث جلس في الصف الأمامي، والغائب الأبرز كان الرئيس الحالي.
كل كلمة تأبين ألقيت في حق ماكين كانت، ضمنياً، بمثابة توبيخ للرئيس الذي نفى أن يكون ماكين بطلا. وعندما ذكر السيناتور السابق جو ليبرمان (المستقل عن كونيكتيكت) مناقب ماكين، باعتبارها تجسيداً لقيم تتباين مع «التعصب القبلي والحياة السياسية القائمة على الهجمات الشخصية التي طبعت حياتنا مؤخراً»، وعندما أثنى الرئيس السابق بوش الابن على ماكين لأنه ذكّرنا بـ«أننا أفضل من هذا، وأميركا أفضل من هذا»، وعندما لفت الرئيس السابق باراك أوباما إلى أن «الكثير من حياتنا السياسية، وحياتنا العامة، وخطابنا العام، ربما يبدو صغيراً ومنحطاً وتافهاً، ومنخرطاً في الخطابات المنمقة الطنانة والإهانات والجدالات الزائفة والغضب».. لم يكن ثمة شك بشأن من كان يقصده المتحدثون. كان في ذهنهم رئيسٌ أمضى الصباح ليس في تكريم ماكين من بعيد، وإنما إطلاق العنان لتغريداته على تويتر قبل أن يتوجه إلى الجولف!
التلميح تحول إلى تصريح عندما ألقت ابنة السيناتور الراحل، ميغان ماكين، أقوى وأكثر خطاب تأبيني تأثيراً سمعته في حياتي. قالت: «إننا نجتمع هنا من أجل تأبين رحيل عظمة أميركية، العظمة الحقيقية وليس الخطاب الرخيص من رجال لن يضاهوا أبداً التضحيات التي قدمها بأريحية، ولا الاستيلاء الانتهازي لأولئك الذين عاشوا حيوات الراحة والرفاهية، بينما كابد هو المشاق وخدم الوطن». وعندما أضافت أن «أميركا جون ماكين ليست بحاجة إلى أن تصبح عظيمة مرة أخرى، لأن أميركا كانت دائماً عظيمة»، صفق الحضور برمته -أكثر من 4 آلاف شخص- بحرارة لم يسبق أن رأيت مثلها في جنازة.
كنتُ جالساً هناك، وكانت لحظة مؤثرة جداً. مثّل ذلك المشهد رفضاً جماعياً من قبل كل الطبقة السياسية الأميركية للتوجهات المثيرة للانقسام التي يمثلها ترامب، وتوقاً للزعامة المستندة إلى المبادئ التي يمثلها ماكين. وعندما وقف الجميع في نهاية القداس، وأنشدنا جميعاً «أميركا الجميلة»، فقد تيقنت بأنني لم أكن الوحيد الذي رآها رفضاً رمزيا لسنوات ترامب. ربما كنتُ أتخيل أشياء غير موجودة، لكني لا أعتقد ذلك. ولا شك أنه لأمر دال ومعبّر عندما يصبح مجرد مدح قيم أميركا أشبه بانتقاد لرئيسها!
كنتُ قد أصبحت متشائماً مؤخراً بشأن مستقبل أميركا، بمعنويات منخفضة، لأن الكثير من مواطني دعموا رئيساً يهدد ديمقراطيتنا، لكن جنازة ماكين مثّلت لحظة أمل وجمال مرحباً بها في لحظة مظلمة من تاريخ بلدنا. وهي تؤكد ما قاله ماكين نفسه في خطابه الوداعي عندما أكد «إيمانه القوي بالأميركيين»، وقال لنا ناصحاً: «لا تيأسوا بسبب صعوباتنا الحالية، ولكن آمنوا دائماً بوعد أميركا وعظمتها، لأن لا شيء حتمياً هنا»، مضيفاً: «إن الأميركيين لا يستسلمون أبداً. إننا لا نذعن. ولا نختبئ من التاريخ. إننا نصنع التاريخ».

*كاتب وباحث سياسي أميركي

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»