مرت، قبل أيام، أربعون سنة(28-31/8/1978) على غياب موسى الصَّدر، وحتى الآن ما زالت الواقعة لُغزاً. حتى سقوط النِّظام الليبي، يعد أتباعه مقتله غياباً، وكأن الفكرة تجسيد لغياب الإمام، التي على أساسها شُيدت الدَّولة العبيدية والفاطمية(297-567هـ)، فالمجلس الشِّيعي الأعلى بلبنان ظل يُشار، بعد اختفائه، إلى خليفة الصَّدر رئيساً بالنيابة. هذا، وظل الحال على ما هو عليه بعد مقتل القذافي(2011)، وفتح السّجون وكشف الأسرار. أقول: ما زالت عقيدة الغياب خصبة، ألم تتفرع منها «ولاية الفقيه» نفسها!
وُلد الصَّدر ونشأ بإيران، بعد انتقال والده صدر الدِّين الصَّدر(ت1954) إليها من العِراق، بطلب مِن مؤسس حوزة قمّ(1921) عبد الكريم الحائري، (ت1937) للتدريس هناك. ليس كما أدعى أحد الكُتاب الإيرانيين، الذي يعتبر حتى اسم العراق إيرانياً، بأن آل الصَّدر إيرانيو الأُصول، بينما أُصول الأسرة بين العراق ولبنان، فمِن الأسرة كان محمد الصَّدر(ت1956) رئيس وزراء العراق، ورئيس مجلس الوصاية.
كان الصَّدر في الستينيات، مِن القرن الماضي، أحد المدافعين عن الخميني (ت1989)، فقد نشرت له صحيفة فرنسية مقالاً يطالب فيه بعودته مِن منفاه، وقام بجولة على أوروبا والفاتيكان للغرض نفسه. ناهيك عن علاقة المصاهرة بين عائلة الصَّدر والخميني. فأحمد، نجل الأخير، متزوج مِن ابنة أخت موسى الصَّدر، وقد كتبت فاطمة طباطبائي كتاباً تحت عنوان «ذكرياتي»، ذكرت فيه أحوال خالها تفصيلاً.
تحدثت كشاهدة عيان عن كيفية وصول الصَّدر إلى لبنان، والبداية بتأسيس المجلس الإسلامي الشِّيعي الأعلى(1967-1969)- بعد دراسته عند الخميني، وحسين منتظري(ت 2009)- لإدارة شؤون الطّائفة الشيعية هناك، وسط اعتراضات مِن قِبل رجال دين مِن الشِّيعة اللبنانيين، وأنشأ مؤسسات خيرية، كمؤسسة «موسى الصَّدر».
أسس الصَّدر منظمة «أمل»، والتي كان نصر الله أمين عام «حزب الله» عضواً فيها، وهو صغير السِّن، لذا يمكن اعتبار «الصَّدر» أول مِن تصدى للعمل السياسي الدِّيني المسلح بلبنان، وإن كان لم ينتظم في حزب إسلامي. فما نقرأه عن نشاطه السِّياسي، يعطينا فكرة بأنه كان جزءاً مِن تسليح المجتمع اللبناني طائفياً ودينياً، إلى جانب صقور الطوائف الأُخر، وكانت له صلات مع محمد باقر الصَّدر(أعدم 1980، ناهيك عن صلة القرابة والمصاهرة بينهما، وحصل أن انتقده محمد باقر على خطاباته في الكنائس، فبرر ذلك العمل بأنه لصالح الشِّيعة(طباطبائي، ذكرياتي).
كان أبرز مساعدي الصَّدر في عمله السياسي والعسكري مصطفى شمران، أو جمران(قُتل1981)، وصل إلى لبنان وساهم في تأسيس «أمل» وقيادتها. اختاره الخميني وزيراً للدفاع، ونائباً لرئيس الوزراء، ورئيساً للحرس الثَّوري. يذكر موسى الموسوي حفيد أبي الحسن الأصفهاني وصديق مصطفى الخميني(ت1977)، أن حسين مصطفى الخميني لا يحترم شمران، فذكر أنه أهانه في مطار طهران، وهو لا زال وزيراً(الموسوي، الثَّورة البائسة). يُعد شمران من أشد المتحمسين للحرب مع العراق.
كان أغلب العاملين، في مؤسسات الصَّدر، مِن أتباع الخميني، إلا أن معترضين على الصَّدر نقلوا إلى الخميني أنه «يحضر مجالس النِّساء وهنَّ بلا حجاب» (طباطبائي، ذكرياتي). لهذا بدا الخميني ليس على وفاق معه، لكن هل ممكن أن يكون هذا سبباً كافياً للتباعد بين الرَّجلين، كي يصمت الخميني عن اختفاء الصَّدر، ويكون نظامه صديقاً مميزاً للنظام الذي قتله، إذا لم يكن هناك ما هو أعمق؟! يُستشف هذا مما ذكرته طباطبائي مِن أن زوجها أحمد الخميني اقترح على خالها الصَّدر الذهاب إلى النَّجف لتوضيح موقفه لوالده، لكنه أجاب: «لن أُدافع عن نفسي»(نفسه).
فالسؤال، وبعد أربعين سنةً، وكان الخميني في أعلى السُّلطة لعشر سنوات، لم تنطق إيران، التي تُقدم نفسها حامية لرجالات الشِّيعة، بكلمة عن مصير أحد الخلصاء للخميني، قبل طرح ولاية الفقيه، ضد الشَّاه والذّابين عنه، والممهدين لتأسيس «حزب الله»، فيما بعد. فلا صحة لِما أُشيع عن علاقة الصَّدر بالنظام الشَّاهنشاهي، فحسب ما دونته زوجة نجل الخميني عن خالها، أن السَّفارة الإيرانية ببيروت طالبته بتسليم جواز السَّفر، لأنه غير مرغوب به.
مع ذلك، كانت العلاقة بين نظامي القذافي وإيران الشَّاهنشاهية مقطوعة، فعادت مع الثَّورة(1979)، وظلت هكذا حتى نهاية النِّظام اللِّيبي، ووصل الوفد الليبي بعد الوفد الفلسطيني مهنئاً بالثَّورة. فهل كان الصَّدر يشكل، بعد وصوله لبنان، منافساً للخميني، على قيادة الشِّيعة سياسياً، أو اختلف مع فكرة «ولاية الفقيه»، التي طرحها الخميني بالنَّجف؟! لذا تحول خصماً، وإن كان من قادة المذهب. فأحمد الخميني، وبشهادة زوجته، أشار إلى الفقهاء المختلفين مع والده بالمنحرفين، وعلى الأرجح أن الصَّدر بحساب الخميني كان منحرفاً عن الولاية المذكورة.
لا نظن أن الصَّدر كان أكثر حضوراً، في الفقه الإمامي، مِن المرجع شريعتمداري(ت1985) ولا المرجع الخاقاني(ت1985)، الذَّيَن بطش بهما نظام «ولاية الفقيه»، وطُبق عليهما وصف الخميني الابن منحرفون؟! الخلاصة، كان الصَّمت الإيراني مِن غياب الصَّدر لُغزاً آخر بعد لُغز الغياب.