النزاع التجاري الراهن بين أميركا والصين ليس جديداً. لكنه ازداد بوضوح منذ العام الماضي عندما شرعت الإدارة الأميركية في اتخاذ إجراءات حمائية لم تقتصر على الواردات من الصين. النزاعات التجارية طبيعية، ولا تمثل خطراً على الاقتصاد العالمي حين يسعى أطرافها إلى تسوية تداعياتها عبر المحادثات والاتصالات. ولكنها تنطوي على خطر التحول إلى حرب تجارية عندما يجد أحد هذه الأطراف، أو بعضها، أنه لا جدوى من الحلول التفاوضية. وفي هذه الحالة، يبدأ الطرف الذي يصل إلى هذا الاستنتاج في حماية أسواقه عبر فرض رسوم جمركية، أو زيادتها. ويزداد الخطر عندما يرد طرف آخر، أو أكثر، بالطريقة نفسها.
يمر العالم الآن في مرحلة تصعيد النزاعات التجارية بين الولايات المتحدة وقوى دولية كبيرة أخرى، وفي مقدمتها الصين. لم يصل هذا التصعيد إلى مرحلة الحرب التجارية بعد. غير أن استمرار التصعيد، وعدم السيطرة على تداعياته، قد ينقلان العالم إلى هذه المرحلة في فترة قادمة. ولكن هل وصل النزاع التجاري الأميركي-الصيني فعلاً إلى مستوى يتعذر حله، أو إلى حالة تصعب العودة عنها؟ تختلف التقديرات في هذا المجال. لكن اختلافها في حد ذاته يعني أن الفرصة مازالت قائمة لإيجاد حل يُجنَّب العالم خطر حرب تجارية لن تبقى نتائجها محصورة في أطرافها.
ويمكن الاستدلال أيضاً على وجود فرصة لحل النزاع التجاري الأميركي- الصيني، الذي يُعد الأكثر أهمية في النزاعات التجارية الراهنة، عبر تحليل الاتجاهات الرئيسية في السجال بين طرفيه. فليس في هذا السجال ما يدل على أن أياً من طرفيه يملك حجة، أو حججاً، دامغة ضد الآخر، بل تفيد متابعته أن كلاً منهما له وعليه في الوقت نفسه. ويظهر هذا عندما نتأمل جانباً من المجادلتين الأميركية والصينية اللتين لا يتسع المجال للإحاطة بكل ما تشملانه.
نقطة الانطلاق في المجادلة الأميركية أن العلاقات التجارية مع الصين ليست منصفة للولايات المتحدة التي فتحت منذ وقت طويل أسواقها بشكل منهجي، وخفضت أو ألغت الكثير من الرسوم الجمركية. وتحاجج إدارة ترامب بأن عدم تجاوب الصين أو تباطؤها في اتخاذ إجراءات مماثلة أدى إلى ازدياد العجز في الميزان التجاري الأميركي معها. وتتضمن المجادلة الأميركية أيضاً اتهاماً للصين بعدم احترام حقوق الملكية الفكرية لسلع وخدمات أميركية تُسرق إما بتواطؤ رسمي، أو من دون اتخاذ إجراء تجاه سرقة هذه الحقوق.
وتتلخص المجادلة الصينية المضادة في أن بكين بدأت في فتح أسواقها بمعدلات متزايدة منذ انضمامها إلى منطقة التجارة العالمية قبل 17 عاماً، وأن وارداتها تزداد بمعدل أعلى من صادراتها، وأن الفائض في الميزان التجاري يتراجع نتيجة الخفض المتزايد في الرسوم الجمركية على الواردات. ولكي تدعم الصين موقفها، تحاجج بأن اقتصادها يستفيد من خفض الرسوم على وارداتها، لأنه يؤدي إلى تقليل أسعار مدخلات الإنتاج التي تعتمد عليها الصناعة الصينية، ومن ثم إلى زيادة الإنتاج. وتعزو المجادلة الصينية التراجع الكبير الذي حدث في معدلات الفقر، والتحسن الشديد الذي حصل في مستويات المعيشة، إلى تداعيات خفض الرسوم الجمركية على السوق المحلية.
وربما تكون حماية حقوق الملكية الفكرية لسلع وخدمات أميركية هي النقطة الأضعف في المجادلة الصينية، التي لم تقدم رداً قوياً أو شافياً على الاتهام الموجه إلى بكين في هذا المجال. فالمحاججة الصينية لا تبدو مكتملة، دون أن يعني هذا أن بكين قالت كل ما لديها بشأن حماية حقوق الملكية الفكرية. وربما يكون لديها ما تضيفه إلى ما تتضمنه هذه المجادلة حتى الآن، وهو أن الصين أوفت بالتزاماتها بشأن حماية حقوق الملكية الفكرية، من أجل تحسين القدرات التنافسية لاقتصادها، لأن الطريق إلى تنمية مستدامة تمر عبر تشجيع الابتكار والاختراع اللذين يعوقهما استسهال النقل من الخارج بطرق غير مشروعة. ووفق المجادلة الصينية، لم يكن ممكناً تحقيق زيادة في أعداد براءات الاختراع الوطنية من دون مواجهة انتهاك حقوق الملكية الفكرية، وملاحقة المنتهكين. لكن واشنطن لم تقتنع بعد بأن الصين حريصة بالفعل على الالتزام بحقوق الملكية الفكرية.
ويفيد تأمل الاتجاه العام في المجادلتين الأميركية والصينية بشأن النزاع التجاري أن كلاً من الطرفين ينظر في النصف الفارغ من الكوب، ويغفل النصف المملوء، وأن نظرة أكثر شمولاً من جانب كل منهما يمكن أن تضع حداً لتصاعد هذا النزاع قبل أن يتحول إلى حرب تجارية لن تقتصر آثارها عليهما.