للكاتب الأميركي‏ سيمون سينك كتاب قيم سماه «ابدأ مع لماذا: كيف يلهم القادة العظماء الناس للعمل؟». ذكر في الكتاب قصة ظريفة وكلها دروس وعِبر عن الدكتور مارتن لوثر كينج الشهير. ففي 28 أغسطس 1963، اجتمع 250000 شخص من كل أنحاء الولايات المتحدة الأميركية في ساحة المتنزه الوطني في واشنطن العاصمة لكي يستمعوا لما ستجود به قريحة الدكتور كينج في خطابه عن «لدي حلم»، وللذاكرة فإنه في ستينيات القرن الماضي لم تكن هناك شبكة الإنترنت، ولم يرسل المنظمون 250000 بطاقة دعوة، ولكن الرجل استطاع أن يجلب كل هذه الحشود في يوم محدد، وفي ساعة محددة، لأنه كان ملهماً ويحظى بالثقة والمصداقية.

نعلم أنه في تلك الفترة، كانت أميركا مرتعاً للفتن ما ظهر منها وما بطن، وبالأخص ما تعلق بالتوترات العرقية وعدم المساواة والميز العنصري الحاد؛ لم يكن الدكتور «كينج» الأميركي الوحيد الذي كانت له ثقافة المساواة، ولا كان الوحيد الذي يفهم ما يجب تغييره في الحقوق المدنية والاجتماعية والسياسية؛ فقد كانت لديه أفكار شبيهة بأفكار آخرين يملكون نفس القناعات والتوجهات الإنسانية التي تسوي ولا تميز، تجمع ولا تفرق؛ ولكن خلافاً للأغلبية كان للدكتور كينج وضوح في الغاية (لماذا؟) وكان لديه شعور بالغرض؛ وهذا وذاك أعطياه قوة ذهنية لا يعلى عليها وطاقة لا متناهية للسير قدماً في إيصال أفكاره وإسماعها للآخرين بطريقة ذكية ومتواصلة. طبعاً كان هناك آخرون مثله يقاسمونه نفس الرؤية عن مستقبل أميركا، وما اعوج في الصيرورة الحضارية والاجتماعية لبلدهم، وكيف يجب جبر ذلك والقضاء عليه من الجذور؛ ولكن كثيرين منهم استسلموا في نهاية المطاف بعد التعرض لهزائم متتاليات.
كان هناك «سجال» كبير حول التفاصيل فيما يتعلق بكيفية ضمان الحقوق المدنية (كيف) أو ماذا يجب أن نفعل؟ وكانت هناك مجموعات متعددة تحاول تطبيق استراتيجيات مختلفة؛ بعضها وجدت في العنف ضالتها، وبعضها حاولت البحث عن ترضيات وسياسات توفيقية.
وفي هذا المخاض متعدد الجوانب، كان «كينج» موهوباً بل عبقرياً، تحدث عن الفكرة التي يؤمن بها بلسان قل نظيره، وبكلمات جامعة شاملة ألهمت الصغير والكبير من الناس: «أنا أؤمن.. أنا أؤمن.. أنا أؤمن»
وأضاف الدكتور «كينج»: «يوجد نوعان من القوانين: قوانين عادلة وقوانين غير عادلة. القانون العادل هو تشريع من وضع الإنسان ينسجم مع القانون الأخلاقي. والقانون غير العادل هو تشريع لا ينسجم مع القانون الأخلاقي....وأي قانون يعلي شأن الإنسان هو قانون عادل؛ وأي قانون يحط من شأن الإنسان هو قانون غير عادل؛ وقوانين الفصل العنصري جميعها غير عادلة، لأن التمييز يشوه الروح ويدمر شخصية الإنسان» فإيمانه هذا كان أكبر من حركة الحقوق المدنية التي كانت معروفة آنذاك في أميركا؛ وكانت كلماته تطبق على الجميع وكيف يجب أن يعامل كل فرد منا الآخر.
سمع الناس بمبادئ «كينج» ولامست كلماته الأماكن الدفينة في قلوبهم؛ تبناها الحضور وأحبوها لأنهم آمنوا بها، ونقلوها إلى الجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب فأصبحت وطنية بامتياز.
كلمات «كينج» كانت هي الفكرة التي يؤمن بها الحضور أصلاً، فكانت وسيلة تذكير وإيقاظ الغرائز؛ ألقى خطاب «لديّ حلم» وليس خطاب «لدي خطة»؛ كان بياناً عن الغرض، وليس حديثاً عن خطة طريق لترسيخ الحقوق المدنية وغيرها في أميركا.
نقلت هذه القصة لكي نفهم منها أن أهم ما يمكن أن يعطيه القادة والرؤساء للمرؤوسين في جميع جوانب الحياة بدءاً من تسيير الدول إلى تسيير الشركات، هو ما يؤمن به كل واحد في داخله بوضوح وشفافية وواقعية وصدق وحب؛ يجب إعطاؤهم ما يلهمهم، أشياء يمكن أن يفهموها جيداً ويتقاسموها بسهولة. كل واحد كان في ذلك اليوم من سنة 1963 يشارك الآخر في مجموعة من القيم والمبادئ بغض النظر عن لون الجلد أو الانتماء أو الطبقة أو الجنس أو السن؛ كل واحد كان يثق في الآخر؛ وكانت تلك الثقة، وذلك الإيمان المشترك، وذلك الصدق، وذلك الحب هو الذي سقى جذور الحركة التي غيرت أميركا بأكملها: نحن آمنا... نحن آمنا... نحن آمنا.