تحولات جديدة شهدها العالم اقترن نشوؤها بنشوء «أجندة» جديدة، غيّرت واقع الحال الاقتصادي والسياسي والثقافي في المنظومات الاقتصادية والسياسية والثقافية، كما انعكست في تحولات نوعية هائلة على صعُد العيش في العالم الغربي، وكذلك الشرقي ولو نسبياً، ومن ضمنه العالم العربي. كان ذلك قد ظهر في ثورة المعلومات، التي اقترنت بنشوء النظام العولمي في الولايات المتحدة الأميركية خصوصاًَ.
أما العالم العربي الذي كان أساساً وقبل تلك التحولات يعيش في حالات من الصراعات السياسية والعسكرية، ومن انهيارات اقتصادية، مع انهيارات سياسية وطائفية... إلخ، فقد وجد نفسه أمام زلزال من نوع جديد، وضمن مشهد انقلابي يرجّ به العالم.
لقد ظهرت ثورة الاتصالات، والثورة التي وضعت مسألتي العدالة والحرية في موضع استفزازي، خصوصاً حين نضيف إليها مسألة العدالة والمساواة، واتضح أن مشهد «الانقلاب»، الذي عاشه العالم العربي مراراً بصيغة تكرّس واقع الاستبداد والتخلف، إنما هو انقلاب من طراز «جديد» وحين يعبر الشعب عن رغبة في التغيير، يأتيه الجواب بالسلاح «العالمي»، وبتحويل وطنه إلى حلقة سجون تعج بمن يصرح بما يراه صحيحاً، ضمن خيارات متعددة، من خيارات «الحقل الجاهلي الظلامي» المتعدد الصيغ والأنماط.
فبدلاً من قراءة التحولات العالمية العظمى، وبدلاً من البحث عن مخارج تاريخية للنظم العربية، واكتشاف ثلاثية القواعد التي تقف وراء ذلك، نعني غياب الديموقراطية ،وهيمنة الاستبداد، وإغلاق أبواب الحرية والعدالة، نقول وراء ذلك كان الحصار التاريخي المغلق قد أحكم القبضة على الشعوب العربية، أي على كل ما بدأ يتسرب إلى تلك الشعوب من الغرب الأوروبي الليبرالي، اقتصاداً وسياسة وثقافة وحرية... إلخ، على عواهنه، لقراءة ما يحمله ذلك كله من دروس تجديدية ونقدية في طريقها إلى الأمام خارج السجون، وغيرها.
ومرت العملية المركبة المذكورة، وهي تخترق حواجز الجدران لا أقول الحديدية، بل الهشَّة، التي تفد إلينا من الغرب البراغماتي «الصريح»، لتصنع لنا الطريق الذي علينا أن نتبعه ليس كعلماء مبدعين، بل كمجموعات بشرية يكتب تاريخها ليس تلك الأخيرة، وإنما الغرب، الذي يتباهى بتحولاته العولمية، التي يلحق بها ما يأتي في كتاب «أميركا - الكتاب الأسود»، تأليف بيتر سكاون، الدار العربية للعلوم، ترجمة إيناس أبو حطب، مركز التعريب والبرمجة عام 2003، بيروت، لبنان).
فوفق ذلك، لا ينبغي لنا أن نختط طريقاً يعالج مشكلاتنا، وفق «خصوصيتنا التاريخية»، النسبية على كل حال، وإنما وفق التطور التاريخي الذي يخص أوروبا أو الولايات المتحدة! فأنا أؤكد أنني أعتقد أن مجتمعاتنا لا تخلو من الحكماء.
فظهور ذلك «الكتاب الأسود» النقدي، تعبير عن الحرية وعن تحويلها إلى عنصر فاعل في الإعلام الأميركي، ودعوة إلى تعميم النقدية والعقلانية والموضوعية في معالجة ما يمر به العالم.
وقد ظهر في ذلك السياق إعلام موضوعي يأتي الأمور من مداخلها العلمية النقدية، وهذا الأمر يمكن أن يتحول إلى مبادرة خلاقة وصادقة، تدعو إلى الموضوعية والإخاء والتضامن بين الشعوب، والتعاون بين علماء ومفكري العالم في عملهم العظيم الذي يأتي في مرحلة محلية وعالمية معقدة، كما لو كنّا الآن نصبو إلى العيش في عصر يحقق النهوض والتنوير والديمقراطية، وكل ما يلزم للتمكين لعالم مفعم بالتعاون والحرية والأخوة.
إنها دعوة إلى تلك الأهداف التي رأت النور الباهر في القرن التاسع عشر يخترق العوالم للوصول إلى ما يجمع البشر من مبادئ عقلانية وديمقراطية جامعة. ومن ثم، نحن الآن أحوج ما نكون إلى رأس «عصر تنويري ديمقراطي جديد»، نواجه به تلك الظاهرات الرعناء، التي يسلكها من يسلكها في العالم، لتعود إلى مرحلة الظلامية التي نعيش مظاهرها الخطيرة على العالم كله.
وربما يقول البعض بأن هذه إن هي إلا أحلام جوفاء عاشتها البشرية في مراحل سابقة، وأن بعض تلك الأخيرة تعيشها الآن كالحلم، فالتاريخ لا يسير في خط أحادي الموقف، إنما هو - خصوصاً في مثل المرحلة العالمية الراهنة - خط يفضي إلى الموت السريري، فالاستمرار في خط أعوج يوصل إلى موت سريري، دون فقدان الحياة التي ستتحول إلى مأساة.