يعتقد الكثيرون أن سائل التواصل الاجتماعي قد نجحت في قلب الطاولة على الإعلام التقليدي الذي فقد ميزة السبق في الخير والمعلومة، أو حتى تمرير قرارات وسياسات حكومية مهمة، ولم تعد المخرجات التحليلية بدورها، تمثل عنصر جذب كما كان عليه الحال قبل ربع قرن. وأصبح كل شخص قادراً أن يكون صحيفة أو قناة مرئية فردية، ويمثل تنافسية كبيرة من حيث عدد المتابعين والحصول على المعلومة التي تمثل ثقل نوعي لدى المتلقي ويعتبرها ذات قيمة حقيقة يكمن الأخذ بها وبناء توجه ورأي من خلالها بجانب التسلية وقضاء وقت الفراغ في متابعة ما يجده مناسباً لذوقه وميوله، وبذلك تسير الأجيال الناشئة في المسار الطبيعي لثورة تكنولوجيا الاتصالات، وسهولة الحصول على المعلومة والمعرفة بسرعة فائقة. والتنبؤ بما هو قادم من أعلام الذكاء الصناعي واندماج الإنسان، والآلة والبرمجة المتبادلة بين الإنسان والتقنيات المعقدة وعلم الأحياء الحاسوبية.
ومن جهة أخرى، أصبح الوصول إلى شرائح المجتمع المختلفة أمراً أكثر سهولة عما كان في السابق. ولكن السؤال الأهم، والذي يبقي دائماً في الأذهان هو: هل يوجد اهتمام اليوم بين الشريحة التي تمثل الأكثرية في السكان بالأخبار السياسية والدبلوماسية وما يقوله المحللون والخبراء والمفكرون والكُتاب والطبقة المثقفة والنخب المتنوعة، أم أن إثارة قضية ما بين مطربة وأحد نجوم «السوشيال ميديا»، هو ما أضحى يمثل وجبة دسمة ومتابعة مكثفة من فئة كبيرة من الجمهور على اختلاف ميوله؟
ومن الملاحظ أن تغريدة واحدة قد يتبادلها مئات الآلاف من المستخدمين حول قضية ما، خاصة ما يتعلق بالتركيز على الفضائح والإشاعات التي تناسب وتيرة العصر، ومع ذلك الإعلام التقليدي مستمر في نمطيته الخبرية التي تبدو أحياناً بعيدة عن الواقع. وتواجه سباق تسلح إعلامي شرساً يحتاج للتفكير الإبداعي أكثر من الميزانيات والأجهزة الحديثة.
والمستغرب منه أنك تجد مشاريع إعلامية ضخمة تصرف عليها ميزانيات خيالية، وهي مخصصة للذين يتشابهون في التفكير، ويتفقون في الرأي، ويظل هذا المنبر حصرياً وذات جماهيرية زائفة، وتأثير ليس له صدى حقيقي في الواقع، ولا يساهم في تحقيق وعي جماعي. ولا تمثل تلك المنصات مصالح الناس العاديين، وبعيده كل البعد عن الشفافية المسؤولة التي لا تضر بمصالح البلد بالمقام الأول، ولا تتحول لمسخ لترسيخ الوهم الصافي. ومسألة أن تحب وطنك وتكون وطنياً لا تعني أنك تملك الأدوات المناسبة، أو تقوم بالممارسات الصحيحة لخدمة أجندة وطنك واستقراره، وهي أحد أكثر التحديات تشعباً وتعقيداً في العالم العربي على وجه الخصوص.
فهناك تكافؤ فرص للوصول إلى شبكة الإنترنت والمعلومات في الدولة المتقدمة، ولكن كل ذلك لم يوقف كل دول العالم على العمل الجاد لضبط الاتجاهات العامة للشعوب، واستخدام كل منصات التواصل الاجتماعي كمنبر إعلامي غير رسمي في الظاهر ورسمي في المضمون، حيث يدرس ويحلل، وقد يعيد برمجة طرق التفكير، ويقلل نسبة الفوارق بين الجنسين في توجهاتهم السياسية والقضايا والمصالح الوطنية والمدارس الفكرية والدينية والسياسية وتحديد العوامل والعناصر المؤثرة في صياغة الرأي، وإشراك وسائط الإعلام الاجتماعية في تشجيع السياسات العامة والتشريعات المختلف عليها، وتحريك مؤسسات الدولة وموظفيها نحو توجه عام يخدم الغايات العليا للدولة، ليأتي القرار مُتبنى من الأسفل. وعندما يمرر من الأعلى للأسفل يكون مجرد عمل إجرائي قانوني، ويلقى دعماً منقطع النظير، حيث يحس كل شخص أنه قراره هو فيدافع عنه باستماتة.
ويبدو لي أن الوقت قد حان كي تُغير وسائط الإعلام والاتصالات جلدها وقنواتها لتوفير إمكانية الوصول إلى المعلومات التفاعلية إلى جميع الفئات بأسلوب مشوق ومقبول للغالبية، وإنشاء منصات لتمكين الناس من المشاركة في إعلام البث المباشر خلال 24 ساعة، ومنح الإعلامين حرية أوسع لتبيان بعض فرص التحسين دون اتهامهم بالخيانة وعدم الوطنية، وضرورة أن يشترك الناس مباشرة في الحوار والنقاش من خلال وسائل الإعلام التي يجب أن تقوم بدور المرسل والمستقبل للخبر في آن واحد من خلال الجمهور، وأن تعكس المنظومة الإعلامية أنماط سلوك شبكات ووسائل التواصل الاجتماعية، والتدفق الحر للمعلومات، وهو ما يتطلب غربلة نوعية الإعلاميين الحاليين، وجعلهم يطرحون البدائل والحلول، وليس تسليط الضوء على المشاكل والخلافات فقط.