يمكن القول إن أشجع لحظة بالنسبة لجون ماكين لم تأت عندما كان قاب قوسين أو أدنى من الموت حين كان أسير حرب في فيتنام الشمالي. حينها كان ضعيفاً ومحموماً بذراعين مكسورتين، وساق مكسورة، وركبة مهشمة، ومثخناً بالجروح جراء طعنات حراب البنادق، ومع ذلك، كان يقاوم معتقِليه رغم أن النتيجة كانت مزيداً من الضربات. ولكن أشجع لحظاته ربما هي تلك التي أتت في 2007- 2008 عندما كان يسعى وراء ترشيح الحزب «الجمهوري» للانتخابات الرئاسية. فقد كانت استطلاعات الرأي تشير إلى أن ثلثي الناخبين «الجمهوريين» كانوا يدعمون التعذيب وقتها، ولكن ماكين قاد معركة ضد نائب الرئيس ديك تشيني حول هذا الموضوع، ولم يأل جهدا للتنديد بالتعذيب في مناسبات كثيرة.
إن الإيهام بالغرق يمثل «تقنية تعذيب فظيعة»، هكذا قال ماكين للناخبين في ولاية آيوا، مضيفاً: «إنها ممارسة فظيعة وبشعة». وخلال إحدى المناظرات، وصف «ماكين» الاستنطاق القاسي بأنه «انتهاك للقوانين الموجودة» ولمعاهدة جنيف. وقال لجمهور في آيوا: «إنني أدرك قبح هذا العدو، ولكن الأمر يتعلق في النهاية بالولايات المتحدة وبأي نوع من الدول هي».
كان هذا آخر شيء يود الناخبون سماعه، بل إن العديد من «الديمقراطيين» كانوا مترددين وقتها في التنديد بالتعذيب، وكانت المؤسسات الإعلامية كثيراً ما تمتنع عن استخدام كلمة «تعذيب» لوصف الإيهام بالغرق. غير أنه كان هناك مرشح «جمهوري» في 2007 لا يخشى معاتبة الناخبين بشأن الإيهام بالغرق والدفاع عن حقوق من يشتبه في أنهم إرهابيون من تنظيم «القاعدة». ولا شك أن هذا هو شكل الشجاعة والزعامة الأخلاقية، ولهذا، يمكننا جميعاً تعلم شيء من ماكين.
لقد كنتُ ممن يختلفون مع جون ماكين بشأن عدد كبير من القضايا، من دعمه لحرب العراق ومشروع قانون الضرائب 2017 إلى سجل تصويته المنسجم بـ83 في المئة مع الرئيس دونالد ترامب. كما أنه كان محافظاً بينما أنا ليبرالي، وبالتالي، فإنه كثيراً ما كان يثير غضبي. ولكن على الرغم من كل خلافاتنا، فإنني كنت معجباً كثيراً بشجاعته، وشغفه بالقضايا التي يؤمن بها، وتصميمه على اتباع قانونه الأخلاقي. ولا شك أن وفاته ستترك فراغاً كبيراً جداً في واشنطن.
لقد كان من بين السياسيين الأكثر نبلاً وشهامة. ففي مقطع فيديو لتجمع انتخابي من حملة 2008 قال له رجل: «إننا خائفون من رئاسة لأوباما». ولكن ماكين رد على الرجل قائلاً عن أوباما: «إنه شخص محترم وشخص ليس هناك ما يدعو للخوف منه كرئيس للولايات المتحدة». ثم تحدثت امرأة لتقول إنها لا تستطيع أن تثق بأوباما لأنه عربي. فكان جواب ماكين: «كلا سيدتي، إنه رجل محترم ورب عائلة مواطن، كل ما هناك أن لدي خلافات معه حول قضايا جوهرية، وهذا هو جوهر هذه الحملة».
إن البوصلة الأخلاقية هي ما كان يميّز ماكين، أكثر من سجله الحربي، وذكائه المتقد، وبرنامج سفره المكثف، واطلاعه وعلاقاته مع أركان قصية من العالم. والأهم من كل ذلك أن ما كان يميّز «ماكين» هو أن مواقفه لم تكن تخضع لاتجاه حركة الرياح السياسية وإنما لمبادئ قوية وراسخة يؤمن بها.
لقد رأيت «ماكين» على مدى سنوات كثيرة يدافع عن قضايا لا عائد سياسياً من ورائها. فسواء تعلق الأمر بالاتجار في البشر، أو تعرض السوريين للقصف، أو تعرض الروهينجا للإبادة الجماعية، أو تعرض المتهمين بالإرهاب للتعذيب، لم يكن ماكين يتبع الناخبين وإنما كان يحاول قيادتهم، لقد كان يحاول القيام بالشيء الصائب.
وبينما كان جزء كبير من الحزب «الجمهوري» في الكونجرس يضطر للانقياد والصمت لخوفهم من ترامب، حتى في وقت كان بعض الأعضاء يعبّرون عن غيظهم واستيائهم في المجالس الخاصة، أصبح ماكين مهماً بشكل خاص، نظراً لاستعداده لرفع صوته دفاعاً عما يؤمن به. وعلى سبيل المثال، عندما أهان ترامب كندا واستعدى أوروبا في اجتماع مجموعة السبعة الكبار، تحول ماكين إلى رجل الدولة الذي يسعى إلى طمأنة الأصدقاء مذكّراً العالم بأن أميركا أكبر من رئيسها. وبعث بتغريدة على تويتر تقول: «إلى حلفائنا: إن الأغلبيتين من كلا الحزبين ما زالتا تؤيدان التجارة الحرة، والعولمة، وتدعمان تحالفاتنا استناداً إلى 70 عاماً من القيم المشتركة. إن الأميركيين يقفون معكم، حتى وإن كان رئيسنا لا يفعل».
وعندما كان «ماكين» يخضع للترويض الطبي بعد عودته من فيتنام، كانت مريضةٌ أخرى تعالج هناك فتاة في الثانية عشرة من عمرها، «آن جونز»، وكانت تحتضر بسبب ورم في الدماغ. وقد سعى «ماكين» جاهداً إلى مواساتها، حيث كان يصل مبكراً لكي يدردش معها وكان يعودها في منزلها للتخفيف عنها ورفع معنوياتها. وبعد أن ماتت آن، فقدت والدتُها «سيلفيا» الاتصال مع «ماكين»، ولكن بعد ذلك بسنوات، كانت متأثرة جداً وهي تحكي لي بصوت مخنوق كيف أن بطل الحرب كان حريصاً على تخصيص وقت للتواصل مع ابنتها والسؤال عن حالها. وقالت لي: «إنني ديمقراطية، وأنا لا أسعى للترويج لجون ماكين سياسياً. ولكن ما وقع يخبرك بشيء ما عن شخصية هذا الرجل. لم يكن ثمة ما يرغمه على القيام بذلك. لقد كان ذلك مجرد لطف ودماثة!».
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»