قبل ثلاثين عاماً مضت، وقفت على منصة «المؤتمر الوطني للحزب الديمقراطي» في أتلانتا عاصمة ولاية «جورجيا» لاستهلال أول مناقشة لحزب سياسي أميركي على الإطلاق بشأن «حقوق الفلسطينيين». وبالنظر في قاعة المؤتمر الوطني إلى 1500 من المؤيدين والمندوبين الذين يرتدون قمصاناً كتب عليها «تحيا فلسطين» ويحملون لافتات «الدولة الآن»، خالجتني مشاعر جياشة.
وتذكرت الاحتجاجات في المؤتمرات السابقة للحزب «الديمقراطي» ضد الحرب في فيتنام، دفاعاً عن حقوق عمال المزارع، واعتراضاً على سياسة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وقد كنت أحلم لو يأتي اليوم الذي أرى فيه إظهاراً مماثلاً لتأييد الفلسطينيين. وهو ما حدث حينئذ أمام عيني.
وبدأت تصريحاتي على المنصة بقولي: «إننا نصنع التاريخ اليوم، حيث يناقش حزبنا قضية حقوق الفلسطينيين، وقد حققنا انتصاراً، بإنهاء الصمت المطبق الذي لطالما خيم على هذه القضية».
واختتمت تصريحاتي قائلاً: «إن هناك من يسعون لإسكات هذه المناقشة، للتظاهر بأنها لم تحدث من الأساس، لكن الضغط والتخويف لا يجديان إلا على المدى القصير، وربما يذيعون الخوف بين البعض، لكنهم لا يستطيعون كسب الأصدقاء في نهاية المطاف».
وأظهرت استطلاعات الرأي حينئذ أنه إذا أجري اقتراع سري، فإن 70 في المئة من المندوبين سيؤيدوننا، لكن في ضوء سياسة التخويف والخوف، أدركنا، في الحملة الانتخابية لـ«جيسي جاكسون»، أن المناقشة «وإنهاء ذلك الصمت المطبق» هما انتصار كاف ولذا قررنا ألا ندعو المندوبين إلى التصويت.
ونقلت التغطية الصحافية في اليوم الثاني عن عضو «ديمقراطي» مؤيد لإسرائيل قوله: «لقد شعرت بالخوف، فلم يحدث شيء كهذا من قبل، وقد بذلنا كل طاقتنا لمنع الأمر من المناقشة في المؤتمر الوطني، لكننا عجزنا عن منعه».
وأكتب ذلك ليس فقط للذكرى، في حد ذاتها، ولكن أيضاً لتذكر مرحلة مهمة في تاريخنا، واستنباط دروس تلك الحقبة التي يمكن أن ترشد عملنا في الوقت الراهن. ومن المهم فهم أن ثلاثة عوامل جعلت تلك المناقشة ممكنة هي: القيادة الشجاعة من المرشح «جيسي جاكسون»؛ والعمل الجاد من قبل الأميركيين المخلصين من ذوي الأصول الأفريقية والعربية والتقدميين؛ والتغييرات في المفاهيم الأميركية التي ألهمتها تضحيات الشباب الفلسطينيين الذين كانوا في خضم انتفاضتهم.
ولأن الحركة الشبابية غير العنيفة عموماً غيرت المفاهيم الأميركية، كانت الرياح مواتية لنا، فلم نحتاج إلى تعريف الناس بالفلسطينيين والمظالم التي يواجهونها، فقد كانوا يشاهدونها على التلفاز كل ليلة.
كان ذلك حينئذ.. وأما الآن:
فقد شهد أنصار القضية الفلسطينية خلال العقود الثلاثة الماضية صعوبات جمّة. فقد أوجدت «اتفاقات أوسلو» توقعات بأن «السلام في المتناول»، لكن بعد سنوات قليلة، تحطمت تلك الآمال. ونجحت الدعاية الإسرائيلية، بمساعدة السياسيين الأميركيين، في استعادة ما خسرته بتوجيه اللوم إلى الفلسطينيين إزاء الإخفاق في جهود صنع السلام.
وعلاوة على ذلك، أدت الأحداث الجسام التي وقعت خلال العقدين الماضيين إلى تركيز الانتباه على قضايا أخرى غير القضية الفلسطينية، لا سيما الحرب على العراق وما يسمى بـ«الربيع العربي» وجرائم إيران والصراعات الإقليمية الدامية، وخصوصاً في سوريا واليمن.
وما كشفه بوضوح استطلاع الرأي العام الأميركي هو وجود انقسام حزبي عميق بشأن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، في ظل تأييد ديموغرافي أكبر لحقوق الفلسطينيين ومعارضة للسياسات الإسرائيلية المتعصبة. وقد ساعد على ذلك التقارب بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. وتوصل استطلاع للرأي أجراه «مركز بيو» لاستطلاعات الرأي في بداية العام الجاري أن تأييد الفلسطينيين يتجاوز تأييد إسرائيل بين من يصفون أنفسهم بالناخبين «التقدميين» و«الليبراليين». وكشف استطلاع حديث لـ«غالوب» أن نسبة تأييد رئيس الوزراء الإسرائيلي بين «الديمقراطيين» لا تتجاوز 17 في المئة.
وفي ضوء ذلك كله، لا تزال عوامل الحملة الناجحة لتأييد حقوق الفلسطينيين موجودة، وبطرق شتى، أقوى مما كانت عليه قبل 30 عاماً.
فقد أضحت قدراتنا أكبر من ذي قبل من خلال جاليات أقوى وأفضل، وخصوصاً من الأميركيين العرب والأفارقة، والمجتمعات الطلابية المستعدة للدفاع عن حقوق الفلسطينيين.
وإذا ترشّح «بيرني ساندرز» مرة أخرى لمنصب الرئيس، فإن قيادته ستساعد في تمكين مثل هذا التحالف، مثلما فعل في 2016 عندما أجرينا للمرة الثانية في التاريخ مناقشة حول حقوق الفلسطينيين. ولو لم يترشح، فإن الحركة قوية بما يكفي والتغييرات في وجهات نظر «الديمقراطية» كبيرة بما يكفي لدفع القضية قدماً، وتبنيها من قبل مرشح أو أكثر.
والمطلوب إذن هو التزام وجهود مركزة لاستجماع قوانا وتوجيه حركتنا مباشرة إلى الساحة السياسية وتبني استراتيجية للمضي قدماً بالقضية الفلسطينية في معركة الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2020. وبرغم أن هذه الاستراتيجية لن تكون مماثلة لتلك التي استخدمناها في 1988، إلا أن الظروف ملائمة لضمان إمكانية طرحها للنقاش مرة أخرى في 2020.
*رئيس المعهد العربي الأميركي-واشنطن