ازدادت التجاذبات حول عملية إعادة الإعمار في سوريا في الأسابيع الأخيرة، بالتوازي مع توسع الجهود المبذولة من أجل عودة اللاجئين، في الوقت الذي يقل عدد الجبهات المفتوحة. ليست جديدة هذه التجاذبات. لكنها ظلت مقصورة لفترة طويلة على مناشدات روسية، وتصريحات أدلى بها مسؤولون في بلدان غربية حول شروط المشاركة في إعادة الإعمار، وتقارير أصدرتها منظمات دولية أهمها البنك الدولي، ولجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا «إسكوا».
الوضع الآن يبدو مختلفاً، أو قل إنه بدا يختلف، في ظل استعادة الاستقرار في معظم المناطق السورية. فمن شأن الاستقرار أن يوفر أجواء أفضل لإعادة الإعمار. ولذلك، ربما تصبح عملية إعادة الإعمار آخر المعارك الكبيرة في سوريا، وخصوصاً في ضوء ارتباطها بالصراع على مساحات النفوذ. وستكون هذه معركة صعبة بأي مقياس، بالنظر إلى حجم الدمار المترتب على الحرب في كثير من المحافظات.
وعندما أصدر البنك الدولي تقريره المهم «خسائر الحرب: التبعات الاقتصادية والاجتماعية للصراع في سوريا» في يوليو 2017، كانت محافظة دير الزور هي الأولى من حيث حجم الدمار الذي بلغت نسبته 41%. لكن هذه النسبة ازدادت بالضرورة بعد إصدار ذلك التقرير، بفعل تصعيد القصف الجوي ضد مواقع تنظيم «داعش» في دير الزور. كما لم تكن محافظة الرقة ضمن المحافظات الخمس الأولى من حيث الدمار في ذلك التقرير. لكن التصعيد الذي حدث في أواخر العام الماضي بهدف القضاء على وجود تنظيم «داعش» فيها ربما يجعلها ضمن المحافظات الأكثر تضرراً.
وتنطوي معركة إعادة الإعمار على أربعة جوانب أساسية. أولها الشرط الأساسي الذي مازالت الدول الغربية الأساسية تتمسك به، وهو ربط مشاركتها في إعادة الإعمار بعملية انتقال سياسي تتسم بالجدية وتوصف أحياناً بـأنها «ذات صدقية»، وتختلف بالتالي عن «النيو لوك» الذي تسعى موسكو إلى إضفائه على الحكم في سوريا من خلال آلية تعديل الدستور التي أُعطيت دفعة في اجتماع سوتشي الأخير نهاية الشهر الماضي.
ربما تحاول روسيا مقايضة الانتقال السياسي بتحجيم النفوذ الإيراني لحفز الولايات المتحدة بصفة خاصة على المشاركة. غير أن تأثير موسكو الفعلي قد لا يُمكَّنها من ضمان تحجيم كاف لنفوذ إيران، ومن ثم طرح معادلة تقوم على أن كل انخراط اقتصادي للولايات المتحدة في سوريا يقابله تراجع في حجم هذا النفوذ. والجانب الثاني في معركة إعادة الإعمار هو استشراء الفساد في سوريا، على نحو يثير مخاوف جدية بشأن الصفقات التي ستُعقد، وحصول مراكز القوة الاقتصادية والسياسية أيضاً، على مكاسب غير مشروعة. ويزيد هذه المخاوف اعتقاد شائع في أن اعتماد الحكومة السورية على شبكات مصالح تابعة لها خلال سنوات الحرب يجعلها مدينة لأصحاب النفوذ في هذه الشبكات، ومضطرة لأن تسمح لهم باقتطاع ما يستطيعون من أموال عبر مشاريع إعادة الإعمار.
ويتعلق الجانب الثالث في هذه المعركة باقتصادات الدول الغربية نفسها. هذه الاقتصادات ليست على ما يرام، ربما باستثناء الاقتصاد الألماني، ولم تتعافى تماماً من آثار الأزمة المالية الاقتصادية التي بدأت عام 2008، وأدت إلى تراجع معدلات الإنتاجية، وازدياد كلفة الإنتاج والأجور، من دون زيادة مناسبة في العائدات، فضلاً عن تحديات الثورة الصناعية الرابعة.
أما الجانب الرابع فهو صعوبة وضع خطة متكاملة لمشاريع إعادة الإعمار من دون توفر معلومات دقيقة وموثوقة، وبيانات وأرقام نهائية. فقد تضاربت في العام الأخير المعلومات والأرقام الواردة في تقارير أصدرتها بعض أهم الجهات التي يفترض أن تكون المصادر الرئيسية التي يعتمد عليها واضعو خطط إعادة الإعمار. ويعود هذا التضارب إلى اختلاف المناهج وأدوات التحليل التي تعتمد عليها كل جهة حتى على المستوى الكلي مثل تقدير حجم الدمار الفعلي وتحديد قيمته، ومن ثم توقع الكلفة اللازمة لإعادة الإعمار.
وربما يكون السيناريو الأسوأ بشأن إعادة الإعمار في سوريا أن تضطر روسيا إلى أخذ المهمة على عاتقها، بالتعاون مع الصين التي يرجح أن يكون لها دور في كل الأحوال، إلى جانب إيران. وإذا حدث ذلك، ستستغرق العملية وقتاً طويلاً بسبب نقص التمويل، وسيكون مستوى الأداء فيها أضعف، وستنطوي على عمليات ترميم أكثر منها إعادة إعمار في كثير من المناطق المدمرة من أجل استئناف الحياة فيها بحدودها الدنيا أو أقل منها، على النحو الذي نجد بدايات له في بعض المناطق التي أمكن إدخال مواد بناء إليها.
*مدير مركز الأهرام للدراسات والبحوث الاستراتيجية.