يصعب تصوّر وجود شعب غير مختلط الهويات في هذا العصر، فإذا لم يكن مختلطاً من الوجهة الإثنية، فهو مختلط من الناحية العرقية، وإذا لم يكن اختلاطه في هذا أو ذاك، فمن حيث المعتقدات الدينية، وإذا كان خالصاً في كل ذلك، فهو مختلط من جانب التوجهات في القضايا السياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها.
ولا يهم كثيراً متى حدث هذا الاختلاط، أو كيف حدث، إذ المهم أن هناك حقيقة على الأرض، وهي هذا المزيج المختلط إثنياً أو بيولوجياً أو دينياً، أو غير ذلك، والأكثر أهمية أن ثمة هوية جامعة لكل تلك الهويات، ولا يأخذ شعب صفته كشعب إلا إذا كان خالصاً من حيث هويته الوطنية، فلا وجود للشعب الفرنسي لو كانت هويات أفراده إيطالية ومجرية وتونسية ومغربية، لكن يمكن أن يكون الفرنسي إيطالي الأصل، ويأكل البيتزا، أو يكون الفرنسي تونسي الأصل، ويصوم رمضان.
وليس من شأن الهوية الوطنية الجامعة إذابة الهويات الأخرى التي ينتمي إليها المواطنون، فالهوية الوطنية نفسها وعاءٌ لتلك الهويات، ومن دونها تصبح فارغة، كما أن هذه الهويات لصيقة بالأفراد، ولا يستطيعون منها فكاكاً حتى لو أرادوا ذلك. فالأصل البيولوجي الذي ينحدر منه الإنسان، والدين الذي يعتنقه، والمكان الذي ينتمي إليه، كلها هويات تشكّل ما هو عليه، وكل ذرة في كيانه هي مزيج من تلك الهويات، ولكل فرد من أفراد الشعب مزيجه الخاص به، وهذا ما كتب عنه الأديب أمين معلوف بشكل تفصيلي في كتابه الشهير «الهويات القاتلة»، وهذا المزيج الذي يشكّل الفرد الواحد، يختلف قليلاً أو كثيراً عن مزيج أبناء وطنه الآخرين، لكن أياً كان مقدار الاختلاف، فثمة قدر مشترك بين الجميع، هو الهوية الوطنية.
وتلك الهوية الوطنية الجامعة التي لا اختلاف فيها بين مواطني أي دولة، تقوى أو تضعف بمقدار احترامهم لقدر من الهويات غير المشتركة فيما بينهم، وهي لا تقوى أو تضعف من دون أسباب. ولعلّ أهم سبب في ذلك هو الاحترام المتبادل بين أولئك المواطنين للعناصر غير المشتركة فيما بينهم، إذ كلما فهموا وتفهّموا واحترموا العناصر غير المشتركة، قوي العنصر المشترك فيما بينهم، أي الهوية الوطنية، والعكس يحدث لو استخفّ بعضهم ببعض في هوياتهم الأخرى، واعتبروها دخيلة ولا تنتمي إليهم، حيث يرتدّ الجميع إلى هوياتهم تلك للدفاع عنها من حيث أنهم يدافعون عن أنفسهم، لأنها الهويات التي تشكّلهم. ويتسبّب عدم الاحترام المتبادل، في التفاف كل مكوّن على هويته الخاصة، ومن ثم انقسامهم وانشطارهم إلى أجزاء لا يجمع بينها شيء.
ولتقريب الفكرة، لنتخيل أن الجو عاصفٌ، وثمة أشخاص بداخل خيمة يمسكون بعمود ارتكازها، ودور كل واحد منهم لازم وضروري لبقاء الخيمة منصوبة، ولكل واحد منهم وتد في الأرض يُشدّ به حبل من حبال الخيمة، وفي هذه الأثناء تخلى أحدهم عن أداء دوره، وذهب لينزع وتد هذا وذاك، فمن المتوقع أن يهرعوا لمنعه عن فعل ذلك، ويتركوا العمود الذي ترتكز عليه الخيمة.