يسهم التعصب للهوية في تغذية الأسباب التي تؤدي إلى العنف، لاسيما خلال فترة الشباب التي تعد أعلى مرحلة عمرية يميل فيها الفرد إلى ممارسة العنف المادي واللفظي والرمزي. فالتطلع إلى المستقبل، والميل الطبيعي إلى الانتماء لأي جماعة رئيسية أو ثانوية، والرغبة القوية في التغيير، يدفع الشباب إلى حالة من الفوران الدائم، لاسيما مع توافر طاقة إنسانية مشبعة بالحماس والحيوية والاندفاع والتضحية، ونزوع إلى الاستقلال والاعتداد بالنفس، مع طغيان لمشاعر القلق، وتعزز الأمل في مواقف مثالية، أو حدية لا تقبل الحلول الوسط، ولا الوقوف في منتصف المسافات، من دون إهمال الاحتياجات الذاتية المرتبطة برغبة الشاب في بناء أسرة وتأمين مستوى معيشة مناسب.
وإلى جانب هذه السمات النفسية والاحتياجات الاجتماعية والانحيازات السياسية، هناك مسألتان مهمتان ومتناقضتان إلى حد كبير، تمسان تأثير قضية الهوية على قيام تصرفات عنيفة من قبل الشباب، هما:
1- تنامي أزمة الهوية: وهي إحدى أزمات التنمية السياسية، لاسيما في المجتمعات الجديدة، التي يغلب فيها بعض الأفراد انتماءاته العشائرية والقبلية والطائفية على الانتماء للمجتمع الأول، أو الدولة، الأمر الذي يخلق تنازعاً نفسياً داخل الشخص بين هذين الانتماءين. ولا تقف هذه الأزمة عند حدود المشكلات الثقافية الداخلية من قبيل الصراع بين الحضري والريفي أو العصرية والتقليدية أو الفجوة بين الحاكمين والمحكومين، بل قد تصل إلى حد الصراع المفتوح بين الثقافة الوطنية والثقافات الوافدة، وبين الخصوصية الذاتية وبين السيطرة الأجنبية.
وسك إريكسون عبارة «أزمة الهوية» في أربعينيات القرن العشرين، قاصداً به من فقدوا الإحساس بالتماثل الشخصي والاستمرارية التاريخية، وبهذا الاعتبار ينفصل هذا الفرد عن الثقافة التي تستطيع أن تهبه التماسك النفسي أو تمنحه إحساسه بنفسه. وقد بات هذا المصطلح يستخدم لوصف مرحلة الشباب، التي هي من أهم مراحل التطور النفسي والجسدي والاجتماعي للإنسان.
2- تأثير العولمة: طرأت على العالم المعاصر تغيرات عميقة هزت الثوابت التقليدية التي كانت المجتمعات تستند إليها، ودفعت بعض علماء الاجتماع إلى إعادة النظر في التصورات التقليدية لدراسة الجماعة البشرية، والتي كانت تنطلق من أن المجتمع تعينه وتضبطه وتنظم تفاعلاته حدود الدولة القومية، واستبدال ذلك بدراسة تأثير المجتمع الكوني على المجتمع المحلي، والدعوة إلى تأسيس علم اجتماع التدفق بديلاً عن علم اجتماع الأبنية. فالمعلومات والقيم والأفكار والسلع التي تتدفق بلا هوادة ورحلات السفر والهجرة التي تنتهي بين الشمال والجنوب، وتوحش أنماط الاستهلاك واتساع رقعة الفقر والتهميش، تؤدي جميعاً إلى فتح أبواب جديدة للعنف.
3- حمولات الثقافة الدينية: من ضمن الرؤى السائدة اليوم في فهم أسباب العنف ومبرراته هناك اتجاه يرجع العنف إلى تأويلات فاسدة للنص الديني. وهذا السبب كان المسؤول الأول عن أشكال شتى من العنف مورست في العالم العربي من المحيط إلى الخليج على مدار العقود الأربعة المنصرمة، انزلقت في بعض الأحيان والأماكن إلى إرهاب. فالتنظيمات والجماعات السياسية ذات الإسناد الديني انتقلت من «الدعوة» إلى ما أسمته «الجهاد» الذي لم يقف عند حد التمرد على السلطات الحاكمة، بل وصل إلى النيل من المجتمع.
ومن يمعن النظر في السياقات المحيطة يجد أن الشباب العربي يسكن قلب أوطان تعتمد التمييز بكفاءة بالغة وتنوع هائل، والعائلات الكبرى تستحوذ على عناصر القوة، والأثرياء يملكون المال وطاقات الفقراء ومصائرهم، والحضر يتعالى على الريف الفقير، والريف يتعالى على النجوع، والرجال هم العناصر الأرقى من النساء، والفقيرات هن الأقل قدراً من غيرهن، والأسوياء أكثر حظاً من الأشخاص ذوي الإعاقة الذين يشكلون 10% من المجتمع العربي تقريباً.
ومع تفشي البطالة وإصرار الكبار على ممارسة الوصاية على الشباب في نظام «أبوي» جامد، ينشأ صراع أجيال حاد، وانسداد الأفق السياسي بفعل استشراء الفساد، وازدياد حجم الغبن الاجتماعي، وشيوع ثقافات تقليدية ودينية نازعة إلى الجمود والتشدد، واستفحال الشعور بالقهر والظلم والهوان حيال العالم الخارجي، يجد الشباب العربي نفسه مدفوعاً إلى الانزلاق إلى ارتكاب العنف بشتى صوره الرمزية واللفظية والمادية، وهي لا حالة لا شفاء منها دون انقضاء الأسباب التي تؤدي إليها.