يلقى أكثر من 300 ألف طفل حديث الولادة حتفهم سنويا، خلال الأسابيع الأربعة الأولى من حياتهم، نتيجة إصابتهم بأحد العيوب الخلقية، وبخلاف هذه الوفيات، تتسبب هذه العيوب الخلقية في إعاقات طويلة المدى، والتي بدورها يكون لها أثر عميق على حياة الطفل، وأسرته، ونظام الرعاية الصحية في موطنه، وعلى المجتمع برمته. وهو ما جعل منظمة الصحة الدولية في اجتماعها الثالث والستين تقوم بإصدار قرار يعتمده عدة إجراءات وتدابير تهدف إلى تحقيق الوقاية الأولية من العيوب الخلقية، وتسعى لتحسين نوعية حياة الأطفال المصابين.
وتعتبر عيوب القلب الخلقية، وعيوب العمود الفقري، ومنظومة «داون» المعروفة سابقا بالعته المنغولي، هي أكثر العيوب الخلقية انتشاراً على الإطلاق. ورغم أن العيوب الخلقية قد تكون نتيجة اختلال أو أكثر في الجينات الوراثية، أو بسبب العدوى بإحدى الجراثيم المحددة والمعروفة، أو أن تكون بسبب عوامل غذائية، أو ظروف بيئية، إلا أنه كثير ما يظل السبب الحقيقي مجهولا، أو تقريبا 50 في المئة من حالات الإصابة. وإن كان هذا لا يمنع أنه من الممكن الوقاية من بعض أنواع العيوب الخلقية بأساليب وطرق مختلفة، مثل التطعيمات الطبية، أو تناول كميات كافية من حمض الفوليك أو اليود من قبل الأم الحامل، من خلال تدعيم الأغذية الشائعة بهذه العناصر الغذائية المهمة، أو من خلال تناول المكملات الغذائية في شكل حبوب وكبسولات، هذا طبعاً بالإضافة إلى توفير الرعاية الصحية المناسبة خلال الحمل.
وإذا تعمقنا بالنظر في أهم أسباب العيوب الخلقية، فسنجد على سبيل المثال أن الجينات الوراثية تلعب دوراً مهماً في العديد من أنوعها. ويتجسد هذا الدور من خلال إما وراثة جينات معيبة من أحد أو كلا الوالدين، أو نتيجة وقوع تغير فجائي غير موجود سابقا في تركيبة الجينات، وهو ما يعرف بالطفرة الجينية. ويعتبر زواج الأقارب من العوامل التي تزيد من احتمالات الإصابة بالاختلالات الجينية النادرة، كما أن زواج الأقارب يضاعف تقريباً من خطر الوفاة في الشهور والسنوات الأولى من العمر، ومن خطر الإصابة بالإعاقة الذهنية، وغيرها من الاختلالات، وهو ما يتضح من حقيقة أن بعض المجتمعات العرقية المنغلقة لحد ما، مثل يهود «الآشكانوي» والفنلنديين، يصاب أفراد مجتمعاتهم بمعدلات أعلى نسبياً من بعض الطفرات الجينية النادرة، مثل مرض سيولة الدم «هيموفيليا سي» وتحوصل الرئتين.
ومؤخراً تزايد الإدراك بأهمية الظروف الاجتماعية-الاقتصادية كعامل مؤثر سلبًا وإيجاباً في احتمالات الإصابة بالعيوب الخلقية، حيث يحتمل أن يكون الدخل المنخفض والفقر مُحدداً غير مباشر، يزيد من معدلات الإصابة بين الأسر والمجتمعات والدول محدودة المصادر، وهو ربما ما يفسر أن حوالي 94 في المئة من العيوب الخلقية الشديدة، تقع بين أفراد شعوب الدول متوسطة الدخل ومنخفضة الدخل.
ويعتقد أن العلاقة الملاحظة بين معدلات العيوب الخلقية والظروف الاقتصادية والاجتماعية، ربما يكون سببها عدم توفر كميات كافية من الغذاء المحتوي على العناصر الغذائية الأساسية للأم الحامل، أو زيادة معدلات التعرض للعوامل والمؤثرات السلبية كالعدوى أو تعاطي الكحوليات والمخدرات، أو ضعف وتدهور مستوى الخدمات الصحية المتوفرة، وخصوصاً على صعيد الفحوصات المسحية التي تكشف عن الاختلالات والاضطرابات في مراحلها المبكرة. كل هذه العوامل المرتبطة بالظروف الاقتصادية والاجتماعية، لا يبدأ تأثيرها مع حدوث الحمل فقط، بل كثيرا ما تترك أثرها على نمو وصحة الزوجين قبل الحمل وخلال مراحل حياتهم المبكرة. ومن ضمن هذه العوامل، يلعب أيضاً عمر الأم دوراً مهماً، حيث يؤدي مثلاً الحمل في سن مبكرة إلى نمو غير طبيعي للجنين في الرحم، بينما يؤدي الحمل في سن متأخرة إلى زيادة احتمالات وقوع اختلالات في الأجسام الصبغة أو الكروموسومات الوراثية، ليصاب الجنين مثل بمنظومة «داون» سابقة الذكر.
وبخلاف الظروف الاجتماعية والاقتصادية، تلعب أيضاً الظروف والعوامل البيئية دوراً محورياً في احتمالات الإصابة بالعيوب الخلقية، مثل تعرض الأم لبعض أنواع المبيدات الحشرية وغيرها من المواد الكيميائية السامة، أو تعاطي الكحوليات، أو تدخين منتجات التبغ، أو التعرض للأشعة الطبية أثناء الحمل. هذا بالإضافة إلى أن السكن أو العمل بالقرب من مكبات تجميع القمامة، أو المناجم، أو المصاهر والمصانع، ربما قد يكون أيضاً عامل خطر، وخصوصاً إذا كانت الأم الحامل تتعرض أساساً لعوامل خطر بيئية، أو تعاني من نقص في العناصر الغذائية الأساسية.