كان القرن التاسع وشطر من القرن العشرين مفعماً بالكفاح من أجل الدولة الوطنية المستقلة. ولم يكن هذا مفعماً بالسهولة والحذاقة، لأن تجربة الحكم كانت صعبة ومعقدة لضعف المفاهيم السياسية في أوساط الطبقة الوسطى، وغيابها إلا لدى نخب ثقافية ضئيلة كانت تنمو في ظل حكم الاحتلال وفي أعقاب جهود ومحاولات مريرة مخترقة من تحظيرات أمنية وسياسية كانت تمارسها مجموعات عميلة للمحتل الأجنبي.
وقد كان لهذا الأمر دور في إضعاف المواطنين وفي إمكانية إضعاف التضامن، كما في التشكيك في التضامن أو الوحدة التضامنية. فهذا ما أضعف أسباب التضامن الوطني، كما في التشكيك في جدوى الوقوف في وجه القوى الدخيلة الأجنبية، وفي تشتيت المعارضة، كما في الخيار السياسي الوطني.
في ظل تلك التحولات كان هنالك عنصر آخر مهم يبرز بوضوح وبأهميته الاستراتيجية الخاصة، ذلك هو المنظر إلى «الوحدة القومية العربية». فهذه الأخيرة ظلت محتفظة بأهميتها، ليس من حيث هي أحد أركان التوحيد القومي العربي فحسب، وإنما بالنظر إليها كذلك بمثابتها مكملة لهدف الاستقلال العربي، فهو يبرز بمثابة الوجه الآخر للكفاح العربي في وجه النزعات الطائفية، ومن أجل تجزئة أبناء الوطن الواحد دينياً وجغرافياً استراتيجياً وعنصرياً ... إلخ.
وظهرت نزعة جديدة هي ثنائية العدالة المؤلفة من عنصري «اقتصاد السوق» و«العدالة» ويلاحظ أن ذلك العنصر الأول المتمثل باقتصاد السوق حقق ظهوراً هائلاً في معظم مناطق العالم، خصوصاً في نشأة العولمة، التي ما إن أثبتت حضورها في العالم الرأسمالي، حتى أصبحت في رأس التحولات ضمن «الرأسمال الجديد» أو «النظام الرأسمالي العولمي».
لقد أحدث التحول باتجاه النظام الرأسمالي العولمي انقلاباً كثيفاً في المنظومة العولمية الجديدة. ولا بد من ملاحظة ذات أهمية في هذا الحقل المتصل، وهي تلك التي تتصل بمنظومة المساواة بين الناس.
وهنا نجد أنفسنا أمام مشكلة غير المشكلات المتصلة بالعدالة الإنسانية؟ أليس التاريخ يعِدُ بأن يوماً ما سيأتي، يكون تحقيق العدالة أمراً ممكناً، نظراً إلى أن مصائر البشر عموماً تتعلق بالمعادلة التالية: إن التاريخ هو الطريق الذي ينتهي بالإنسان إلى مرحلة ما تتمثل فيها إمكانات التقدم التاريخي، الذي يرتبط بالحصول على «السعادة البشرية» بعد عناء طويل وانتظار ملطخ بالآمال، وبما ترتبط بها من سعادة تمثل مآلاً للبشرية المعذبة، ونمط الأحلام التي تمثل آمال البشرية.
المنظومة العولمية الرأسمالية إن هي إلا طريق محتمل للوصول إلى بر الأمان؛ هكذا يعلن أصحابها من دعاة التطور العاصف، الذي يخلق آمالاً جديدة، من نمط تعميم الطرق إلى النظام العولمي.
والحق، إن ذلك قد بشر به «الليبراليون الجدد»، الذين ركزوا على وضع الإصبع على واحد من أهم الأحلام البشرية في العدالة والمساواة.
إن هؤلاء يسوقون فكرة ظاهرها مغرٍ، وباطنها وعد بـ «عدالة زائفة وهمية»، فهؤلاء يضعون مبدأ أمامهم، ويطلبون من الناس أن يختاروا معادلة من معادلتين اثنتين، تقف الأولى منهما في صدر الموقف «الإنساني العادل على نحو كاذب زائف»، في حين أن الموقف الثاني يتمثل في التساؤل التالي: هل النشاط الاقتصادي المباشر يسمح بتدخل موقف آخر قائم على قناعة مفادها : أن منظومة النشاط الاقتصادي الحي، الذي ينجزه أصحاب الدخل المالي والاقتصادي لا يمكن مساواته بما يفشل في إنجازه الضعفاء والمراوغون والفاشلون في العمل.
وبتعبير آخر: هل من الإنصاف المعادلة بين النشاط الاقتصادي الحيوي الذي يقدمه أصحابه يمكن أن يعادله عمل أولئك «الفاشلين؟!» نلاحظ أن هذه المقارنة بين الموقفين يضعها أصحابها بمثابتها مساءلة بين من يعمل ومن لا يعمل.
وهكذا تغيب الحقيقة عبر تلك المقارنة الزائفة، أي تغيب عبر التأكيد بأن النشاط الاقتصادي القائم على مبدأ العدالة يفضل على مبدأ النشاط الاقتصادي الكثيف. ففي هذا النشاط يتساوى من يقدم جهوداً للادخار والتنمية والعمل التاريخي المفتوح مع من يتمسك بمبدأ العدالة والمساواة، دون تقديم ما يسهم في مسائل التنمية وفتح آفاق جديدة للاقتصاد الحداثي والتراكم المتدفق: هل يتساوى مبدأ العدالة مع مبدأ الإنتاجية، الذي يتمثل مع «اقتصاد السوق» أو هل يتساوى جهد الإنسان الحقيقي الفاعل مع مبدأ اقتصادي ينظر إلى البشر من حيث هم آلات؟!