إحدى الهدايا الاستثنائية التي قُدّمت إلى العالم مع رأس السنة الحالية، كتاب حمل موضوعاً جريئاً أحدث ضجة عالمية، مؤلفه الفيلسوف الكندي (ألان دونو). فما الرسالة التي أرادنا وغيرنا تسلّمها والنظر في عنوانها (نظام التفاهة - La medioratie ) ؟ يخلُص المؤلف إلى حقائق صادمة يبدؤها: أن على البشر إدراك حقيقة (أن التافهين حسموا المعركة لصالحهم، وباتوا يمسكون الآن بمواقع مهمة في العالم). ويعطي أستاذ الفلسفة والعلوم السياسية نصيحة فجّة لأناس هذا العصر قائلا: «لا لزوم لهذه الكتب المعقدة. لا تكن فخوراً ولا روحانياً، فهذا يظهرك متكبراً. لا تقدم أي فكرة جيدة فستكون عرضة للنقد. لا تحملْ نظرة ثاقبة، وسع مقلتيك، أرخِ شفتيك، فكّر بميوعة. عليك أن تكون قابلاً للتعليب».
وتعود بداية القصة التي أخرجت دونو عن طوره ليقول: إن جذور التفاهة ولدت في عهد ماجريت تاتشر (1979-1990)، يومها جاء التكنوقراط إلى الحكم فـاستبدلوا السياسية بمفهوم (الحوكمة)، واستبدلوا الإرادة الشعبية بمفهوم (المقبولية الاجتماعية)، والمواطن بمقولة (الشريك)، ليصير في النهاية الشأن العام تقنية (إدارة) لا منظومة قيم ومثل ومبادئ ومفاهيم عليا، ولتصير الدولة مجرد شركة خاصة، ولتصبح المصلحة العامة مفهوماً مغلوطاً لمجموعة مصالح الأفراد، وليغدو السياسي صورة سخيفة للناشط اللوبي الذي يعمل لمصلحة زمرته. حسناً، لو افترضنا جدلاً أن المرء قد يتفق مع دونو في هذه الجزئية، فهل هذا كل شيء ؟ لا، يجيب: فهنالك سبب ثان لتربع التفاهة على عرش العصر يتمثل في(تطور مفهوم العمل في المجتمعات؛ فالمهنة صارت وظيفة، شاغلها يتعامل معها كوسيلة للبقاء لا غير، فهو يمكن أن يعمل عشر ساعات يومياً على وضع قطعة في سيارة، لكنه لا يجيد إصلاح عطل بسيط في سيارته، ويمكنه أن ينتج غذاءً لا يقدر على شرائه، أو يمكنه بيع كتب ومجلات لا يقرأ منها سطراً. انحدر مفهوم العمل ليصير مجرد أنماط، شيء ما من رؤية (شارلي شابلن)، في إشارة إلى العمل السينمائي (الأزمنة الحديثة) لشابلن. انطلاقاً من هذين العاملين يقول «دونو»: تنميط العمل وتسليعه وتشييئه، وتفريغ السياسة والشأن العام، صارت التفاهة نظاماً كاملاً عل مستوى العالم، وصارت قاعدة النجاح فيها أن (تلعب اللعبة) وهي قاعدة غير مكتوبة ولا نص لها لكن الجميع يعرفها: انتماءٌ أعمى إلى جسم ما، يقوم على شكليات السهرات والغداءات والانتقامات، ليصير بعدها الجسم فاسداً وينسى علة وجودة ومبادئ تأسيسه ولماذا وجد أصلاً ولأية أهداف؟ يضيف دونو، إن أفضل تجسيد لنظام التفاهة صورة (الخبير) المستعد لبيع عقله لمستخدمه، في مقابل (المثقف) الذي يحمل الالتزام تجاه القيم والمثل.
إن جامعات اليوم، يرى «دونو»، تلك التي تمولها الشركات، صارت مصنعاً للخبراء لا للمثقفين، حتى أن رئيس جامعة كبرى قال مرة «على العقول أن تتناسب مع حاجات الشركات». لا مكان للعقل النقدي ولا لحسِهِ، أو كما قال رئيس إحدى الشبكات الإعلامية الغربية، من أن وظيفته هي أن «يبيع للمعلن، الجزء المتوفر من عقول مشاهديه المستهلكين، كل شيء صار لإرضاء حاجات السوق».