«جميع عِلل البشرية، وكل مآسي سوء الحظ، التي تملأ كتب التاريخ، وجميع التخبطات السياسية، وكل فشل الزعماء الكبار سببها مجرد الافتقار إلى المهارة في الرقص». قال ذلك الكاتب الهزلي الفرنسي «موليير». وحلبة الرقص الحالية هي «الجيوبوليتيكا»، وهي «الجيوسياسة»، ويفتقر إلى مهارة الرقص فيها السياسيون في كل مكان.
ومصطلح «الجيوسياسة» مستقى من «جيو» الإغريقية، وتعني الأرض، وهي تدرس تأثير الجغرافيا البشرية والطبيعية على السياسة والعلاقات الدولية، وتقدم طريقة لفهم السياسات الخارجية، وتوقع اتجاهاتها عبر المتغيرات الجغرافية، كالمناخ، وتضاريس «طوبوغرافيا» الأرض، والموارد الطبيعية، والسكانية. وتركز «الجيوسياسة» على السلطة السياسية بالعلاقة مع الحيّز الجغرافي، وخصوصاً المياه الإقليمية، والأراضي البرية. وعلم «الجيوسياسة» الحديث يتعامل مع «الدول كعضويات مكانية» و«أجهزة حية»، ويبحث «التنظيم السياسي للبرية»، والحضارات «البحرية» والتجارية.
وفي الرقص الشعبي الروسي، يقرفص الراقصون على الأرض، ثم يقفزون عالياً في الهواء، وهذا هو أسلوب «الجيوسياسة» الروسية التي تُغير حالياً العالم، بما فيه روسيا نفسها. وعندما سُئل الزعيم الروسي بوتين عمّا إذا كان يعمد إلى الهجوم أم الدفاع في سباقاته في «الهوكي على الجليد» ومصارعة «الجودو» قال «الهجوم طبعاً، أنا دائماً في الهجوم، هذا أفضل أشكال الدفاع». والهجوم أسلوبه «الجيوسياسي» الذي انتصر به في الشيشان، وفي النزاع مع جورجيا، واستعادة شبه جزيرة القرم، وخوض الحرب في سوريا. وسوريا في وضع «جيوبوليتيكي» بالغ الحساسية في حسابات السياسة في الشرق الأوسط حسب الباحث الأميركي إدوارد لوك.
و«بوتين» زعيم «جيوسياسي» بالكامل، ومنها يستمد الإيديولوجيا «الأوروآسيوية»، ويمتثل في ذلك للرأي العام الروسي، حيث ثلاثة أرباع السكان يعتبرون بلدهم أوروآسيوياً، وحضارته «أرثوذوكسية»، ويرفضون الاتجاه نحو الغرب، حسب استقصاء اتجاهات الرأي العام الروسي، الذي وجد 13% فقط من السكان يعتبرون روسيا جزءاً من الحضارة الغربية. و«روسيا زائداً الإسلام يساوي إنقاذ أوروبا»، و«المحيط الهندي طريق السيادة العالمية»، و«أوروبا تمتد من فلاديفستوك إلى دبلن»، و«الجبروت يساوي القوة زائداً موضع المكان»، و«الآفاق القارية للثورة الإسلامية». هذه بعض أطروحات علم «الجيوسياسة» وفيه نكتشف دور الزعيم الروسي «بوتين» في التاريخ، ودور التاريخ في ظهوره، ولن نفهمه إلاّ باستكشاف وضع روسيا «الجيوسياسي».
وأشمل شرح لعلم «الجيوسياسة» يعرضه الفيلسوف الروسي «دوغين» في كتابه الموسوعي الضخم «أسس الجيوبولوتيكا». يقع الكتاب في 600 صفحة من القطع الكبير، وتتوافر نسخته الروسية فقط في خدمة الكتب «أمازون»، التي تطبعه عند الطلب.
والوضع الجيوسياسي جعل ألمانيا قلب أوروبا، وروسيا محور تاريخ أوروبا عبر القرون. و«من يملك أوروآسيا يملك العالم» حسب أحد أبرز علماء «الجيوسياسة» الأميركيين نيكولاس سبايكمان، واضع «نظرية الاحتواء» الذي يمتد من سواحل أوروبا الغربية، وعبر الشرق الأوسط إلى آسيا والمحيط الهادي. ومعضلة «الجيوسياسة» العالمية تملك صلة مباشرة بروسيا، التي استهدفتها على امتداد القرن الماضي سياسات«الاحتواء البحري»، و«لعبة الشطرنج»، و«اللعبة العظمى».
والعرب القادمون أخيراً إلى الحلبة ورثة أقدم المهارات في الرقص «الجيوسياسي» السومري، والبابلي، والفرعوني، والعربي، ويؤسسون الآن أحدث مدارسها «ما وراء الجيوسياسة». بادر إلى ذلك عالم الطب السعودي «نايف الروضان» زميل «معهد سان أنطوني» في جامعة أكسفورد، والمختص بعلم الأعصاب في جامعات «مانشستر» و«يل» و«هارفارد». ويعالج «الروضان» تأثير الطبيعة البشرية على مسائل الحرب والسلم، وعلى التعاون الفكري والسياسي بين الإيديولوجيات، والدول، والثقافات. و«ما وراء الجيوسياسة» تدرك شخصية «بوتين» الذي قال: «قبل خمسين عاماً علّمتني شوارع لينينغراد قانوناً واحداً، إذا كان لا مناص من العراك، فعليك أن تبادر بالضربة الأولى».
*مستشار في العلوم والتكنولوجيا