يلتقط المفكر العربي نجيب عازوري لحظة تاريخية مرّ بها العرب تتزامن تاريخياً مع مشروع كان قد طرحه قوم آخرون هم اليهود، وكان ذلك في المرحلة الأولى من القرن العشرين. وقد أرّخ لهذا الحدث ذاك المفكر نجيب عازوري اللبناني السوري. وكان ذلك قد ظهر في كتاب لهذا المفكر الأخير بعنوان ينطلق من الحركة العربية الناهضة في حينه عام 1905، نعني كتاب «يقظة الأمة العربية» (صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، دون تاريخ النشر)، وقد جاء ذلك متزامناً، كما قال العازوري مع تلك اليقظة العربية: «إن ظاهرتين هامتين، متشابهتي الطبيعة، بيد أنهما متعارضتان، لم تجذبا انتباه أحد حتى الآن، تتضحان في هذه الآونة في تركيا الآسيوية، أعني يقظة الأمة العربية، وجهود اليهود الخفي لإعادة تكوين مملكة إسرائيل القديمة على نطاق واسع، ومصير هاتين الحركتين هو أن تتعاركا باستمرار حتى تنتصر إحداهما على الأخرى. وبالنتيجة النهائية لهذا الصراع بين هذين الفريقين، اللذين يمثلان مبدأين متضاربين، يتعلق مصير العالم بأجمعه". والطريف الملفت أن تيودور هرتزل كتب، وكأنه رد على عازوري، وموجهاً كلامه لوزير خارجية بريطانيا الذي أعلن في حينه قائلاً: في لحظة تستطيع بريطانيا أن تعتمد على عشرة ملايين يهودي مخلصين لها في جميع أنحاء العالم. وسيكون لبريطانيا عشرة ملايين عميل من أجل عظمتها وسيطرتها، وهذا الولاء لابد أن يكون على الصعيدين السياسي والاقتصادي: الدولة الصهيونية، لندن، المكتب المركزي للتنظيم الصهيوني.
تلك عناصر تضعنا أمام حيثيات أُريد لها أن تكون مكونات «الدولة الجديدة»، دولة «الثأر» اليهودي الصهيوني في فلسطين، والملاحظة المهمة تأتي من أن ذلك الجهد المبذول على «طريق تأسيس الدولة الجديدة الملفّفة ثم بمساعدة بريطانيا العظمى»، القادرة على توظيف «عشرة ملايين عميل» تعمل في خدمتها. والأمر الملفت يقوم على خدمة بريطانيا للوصول إلى «دولة» لا تملك شرعيتها التاريخية، وبالمقابل تسعى إلى تقويض الدولة الشرعية الفلسطينية، أما من طرف آخر، فحتى هذه الدولة اللاشرعية، التي تسعى إلى إلباسها شرعية زائفة، تعمل على جعلها الدولة الوحيدة الشرعية، في مقابل التنكر «للدولة» ومن ثم حتى الإقرار بدولتين اثنتين، واحدة لليهود وأخرى للعرب الفلسطينيين لا تقرب بهما إسرائيل، من موقع أن إسرائيل هي الدولة الوحيدة المتفق عليها كوريثة لليهود القدماء وفي هذه ما يبقى من مناطق أخرى تُلحق بإسرائيل. والطرافة الاستفزازية أن الأميركيين برئاسة ترامب وافقوا مع الإسرائيليين على نقل السفارة الأميركية إلى القدس. ومعروف أن تل أبيب عاصمة إسرائيل المزعومة قامت على أنقاض يافا وغيرها من أرض فلسطين، إضافة إلى ذلك جرت محاولة تحويل المسجد الأقصى إلى معبد يهودي. ومن الطرائف المقيتة أن اسحاق رابين تمنى أن يستيقظ من النوم ليرى القدس غائبة.
لقد مرّ سبعون عاماً على النكبة الفلسطينية، لنرى أن الشعب الفلسطيني ما يزال يقدم قرابين الشهداء في سبيل استعادة بلده فلسطين، نعم بعد هذا العمر الملطّخ بالعار والظلم، ما زال العقل الإسرائيلي الصهيوني الفاشي، معبأ بالحقد الأسود على الشعب الفلسطيني، بدرجة لا يزال يفكر تجاه هذا الشعب المفعم فيها بقتله قنصاً، وهذا ما سمعناه في وسائل الإعلام، التي تبث خبراً في شهر مايو المنصرم، مفاده أن أحد أعضاء الكنيست صرح ما يلي: «عندنا رصاص كاف لقتل الفلسطينيين» هذا القول ليس تصريحاً فحسب لأحد أعضاء الكنيست، وإنما هو استراتيجية إسرائيل تجاه الشعب الفلسطيني.
لقد انقضى ما يقترب من اثني عشر عقداً على صدور كتاب المفكر القومي نجيب عازوري، هذا الكتاب التي فتح على الباحثين المؤرخين العرب وعلى الشعوب العربية عموماً، باباً لم يفتحه إلا قلائل من الباحثين المؤرخين العرب، ومن ضمنهم الباحثون ومراكز الدراسات في الوطن العربي، ومن ثم فإن الشأن الفلسطيني كان وما زال يطرح نفسه على من يملك علماً وكرامة من العرب جميعاً. ولنقل إن ذلك الواجب الهائل الأهمية يُمثل أمام أهل الشأن بالتاريخ العربي عموماً، وأمام المؤرخين ذوي الاختصاصات المعنية خصوصاً، ففلسطين تبرز الآن مطالبة إياهم بالدفاع عن كرامتهم القومية والوطنية بدلاً من حروب عشوائية داخل هذا القطر العربي أو ذاك!
*أستاذ الفلسفة- جامعة دمشق.