هل يعد التخطيط الاستراتيجي لتطوير الهياكل والتنظيمات التي تصب في مصلحة كل عضو بنفس القدر ومواجهة الأزمات هو الغائب الأكبر في منظومة الاتحاد الأوروبي؟ فما أن تهب رياح الأزمات الموسمية على الاتحاد حتى تظهر فجوات في بنائه التأسيسي وضعف الحلول، ولا سيما أن الأزمات هي المقياس لمتانة أي اتحاد إقليمي. ومنذ أزمة الائتمان في عام 2008 وما بين أزمات مالية اقتصادية حادة وأزمة طاقة إلى أزمة المهاجرين والتعامل مع الملف الروسي وأزمة قيادة وأزمة «بريكست» وأزمة الوصول لاتفاقيات تجارية حرة لا تضعف المزارعين الأوروبيين، والتصنيع والتجارة ذات الأبعاد العادلة لجميع الأطراف، فإن أوروبا تترنح. فهل أصبح الاتحاد جهازاً بيروقراطياً مترهلاً تتحمل دولتان الحمل المالي الأكبر فيه، ووضع الدول المتعثرة اقتصادياً تحت «الإقامة الاقتصادية الجبرية» والحصول على أكبر قدر من المنافع للدول الأقوى اقتصادياً، حيث تعد الحلول المطروحة للتعامل مع الأزمات باهظة الثمن، وكل دولة في الاتحاد الأوروبي تبحث عن مصالحها الخاصة، ولا تتفق دول الاتحاد في تعاملها مع الملفات المختلفة.
ونستطيع القول، إن أوروبا في حالة من التحلل إنْ صح القول، حيث تحاول الدول الأوروبية إيجاد حلول وطنية لمشكلات لا يمكن أن تكون لها سوى حلول أوروبية وخلافات عميقة تسود بين دول الاتحاد بشأن حجم مساهمات دولها من جهة ومن حيث توزيع المليارات على الدول الأعضاء من جهة أخرى، وخاصة أن الدول الأوروبية تصرف القسم الأكبر من ميزانيتها على قطاع الضمان الاجتماعي، فأين المخرج؟
وبأن نقول بأن الهدف المركزي للاتحاد الأوروبي هو إنشاء اتحاد سياسي، هو طرح يبدو مضللاً في دول لها تاريخ وثقافات منفصلة خاصة بها، ولا يرغب العديد من الناس في تبادل هوياتهم القومية من أجل دولة أوروبية موحدة، ولأن ألمانيا هي أقوى بلد اقتصادياً في الاتحاد، فهناك ميل إلى فرض نموذجها الاقتصادي على البلدان الأقل نفوذاً التي لديها ثقافات اقتصادية مختلفة، وأحياناً عواقب وخيمة، ومثال على ذلك هو اليونان، التي شهدت تراجعاً اقتصادياً مثيراً، ويرجع ذلك جزئياً إلى قيام ألمانيا بفرض تخفيض تقشف في مقابل القروض وبطء شديد في الاستجابة للأزمات.
وحتماً سيؤدي التوسع في أوروبا الشرقية إلى زيادة التوتر مع روسيا ناهيك عن نوايا الاتحاد الأوروبي في دمج الاقتصادات، في حين إن القليل من البلدان، إن وجدت، ستمنح سلطة فرض الضرائب والإنفاق على المؤسسات الأوروبية والاتحاد الأوروبي مصمم أصلاً للعمل مع عدد صغير من البلدان المتماثلة في أوروبا الغربية كما يتطلب اتخاذ بعض القرارات في الاتحاد الأوروبي توافقاً في الآراء بين جميع البلدان، وهذا يؤدي إلى التخفيف من حدة السياسات أو طرح المشاكل على الطريق، بدلاً من التعامل معها بطريقة حاسمة بجانب إشكالية النموذج الاجتماعي الأوروبي للرأسمالية للتنافس مع النماذج الصينية والأميركية، التي توفر حماية أقل للعمال، ولكن بتكلفة أقل.
كما أن تحرير اليد العاملة عبر الحدود الوطنية الأوروبية أدى إلى أن العمال من البلدان الأفقر يمكنهم السفر إلى البلدان الأكثر ثراء، وأن يقوضوا فعلياً أجور السكان المحليين مما تسبب في الاستياء والبطالة كما أن دولة مثل فرنسا، على سبيل المثال، تحمي صناعتها الزراعية من التأثير الكامل للمنافسة المفتوحة.
ويخيل لي أن أحد أسباب تأسيس الاتحاد الأوروبي الأهم على الإطلاق هو وقف انتشار الشيوعية، فهذه الأخيرة كانت تعتبر تهديدًا في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وأيضاً جعل أوروبا عصية على الاتحاد السوفييتي سابقاً، فهل سيكون هناك صدام قادم ومواجهة حتمية لا محالة بين أوروبا وأميركا، مما جعل بريطانيا تخرج من الاتحاد الأوروبي كتأمين لها على المدى الطويل؟ وماذا عن الخطط الضريبية والتقارب في ضريبة الشركات؟ والخوف من أنه ربما يتم استهداف كبرى الشركات الرقمية التي تمثل حجماً كبيراً من الاقتصاد الأميركي، ونظاماً بنكياً سيُعاد هيكلته لتحييد الدولار والمطالبة باتفاقيات تجارية أكثر توازناً مع أميركا الشمالية والصين، وهي مشاريع طموحه تراقبها أميركا والصين بكثب، وخاصة أن الولايات المتحدة لها يد خفية في الأمن المالي للاتحاد الأوروبي، كما أن الصين دخلت بقوة في تلك الجبهة، كما أن الاعتمادية المبالغ فيها في أهمية الاتفاق وانسيابية العلاقة الفرنسية- الألمانية ومدى الدور التي تلعبه في مستقبل منطقة «اليورو» يعد من أكبر المخاطر التي تواجه الاتحاد الأوروبي.
*كاتب وباحث إماراتي في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات.