قبل أسبوعين كان شيخ الأزهر ببريطانيا واجتمع بالملكة، وأجرى محادثات مع أسقف «كانتربري» الذي كان قد اتفق معه على برامج للتعاون في لقاءاتٍ بأبوظبي وبالقاهرة. وكانت للشيخ زيارات في السنتين الماضيتين إلى الفاتيكان وإلى ألمانيا وفرنسا. وقد زاره البابا فرنسيس في مصر، وعقدا مؤتمراً للسلام، ونشأت برامج للتعاون. وتحرك الشيخ عبدالله بن بيه رئيس منتدى تعزيز السلم في السنوات الماضية كثيراً في المجال الدولي والعالمي، بخاصةٍ باتجاه الولايات المتحدة الأميركية، وعقد مؤتمراتٍ نوعية لجهة الموضوعات، ولجهة الحاضرين والمحاضرين. وفي المملكة العربية السعودية ظهرت مراكز وبرامج، وتحرك الدكتور محمد العيسى رئيس رابطة العالم الإسلامي باتجاه أوروبا والولايات المتحدة.
إنّ هذا النشاط الكبير للمؤسسات الدينية، بقصد تغيير الصُوَر السلبية عن الإسلام، والتصدي لموجات الإسلاموفوبيا، ترافق بالطبع مع عملٍ بالدواخل لمكافحة التطرف من خلال ظهور معاهد لتدريب الأئمة والمدرِّسين، وتغيير البرامج التعليمية، وعقد مؤتمرات ووُرشَ عمل إرشادية، وتنظيم شؤون الفتوى، وتكثيف الظهور في الإعلام والفضائيات، وإنشاء المراصد.
وكنتُ أُطالبُ بالتعاون بين المؤسسات الدينية في العالمين العربي والإسلامي لتبادُل الرأي، والتشاور بشأن تطوير وسائل وأساليب مكافحة التطرف، والدعوة للخير والمعروف. وقد حصل ذلك في السنوات الأخيرة فيما بين المؤسسات الدينية الكبرى والفاعلة في مصر والسعودية والمغرب والأردن وإندونيسيا وباكستان وماليزيا.
ولا شكّ أنّ هذه النشاطات والتحركات حظيت وتحظى بدعم وتحفيز الدول الوطنية في بلدان تلك المؤسسات. بحيث صار يمكن الحديث عن سياساتٍ جديدةٍ للدين أو تجاه تلك المؤسسات تحت شعارات وعناوين مكافحة التطرف ونشر الاعتدال، ومواجهة ظواهر ومظاهر العنف باسم الدين، وضرورات انتهاج أساليب جديدة في التربية الدينية من جهة، وتأهيل المؤسسات الدينية وشبان العلماء لنوعٍ آخر ومختلف للتعامل مع المجتمعات الداخلية من جهة، ومع المؤسسات والجهات المماثلة في العالم.
وبالطبع فإنّ هذه النشاطات الزاخرة انطلقت وتعددت في الأصل لمواجهة الظاهرة المأساوية المتمثلة في ممارسة العنف باسم الدين من جهة، ومحاولات الحزبيات الاستيلاء على إدارات الدول بعناوين مثل تطبيق الشريعة، أو مكافحة التغريب، أو إقامة الدولة الإسلامية أو دولة الخلافة. لكننا الآن وبعد عقدين من التحرك في كل اتجاه، صارت هناك إشكاليتان مطروحتان: علاقة بنية تلك المؤسسات بالمهمات المطروحة والمستجدة- وعلاقة المؤسسات بالدول الوطنية. بالنسبة للأمر الأول؛ فإنّ تراكم تلك النشاطات تبعاً للتحديات، أظهر أنّ بنى تلك المؤسسات المعرفية والإدارية تحتاج إلى تجديدٍ كبيرٍ وإصلاح كبير. فظاهرةُ «عودة الدين» السلمية والعنيفة، الناجمة عن تحديات العولمة ووسائل الاتصال وتأثيراتها المتناقضة، تفرض معارف جديدة، واهتمامات جديدة، وأسئلة جدية بشأن مهمات الدين في القرن الحادي والعشرين. وما إذا كانت المؤسسات مؤهَّلةً لذلك معرفياً وإدارياً، ولذلك فوجئت بالعنف الأعمى من جهة، ومن جهةٍ أخرى: الإقبال الهائل من الفئات الشابة على الدين بطرائق حميمية، وظهور تعبدياتٍ جديدة تتجاوزُ كثيراً ما كانت المؤسسات الدينية في سائر الأديان الكبرى تعرفه أو تعترف به. فإذا كانت الشذوذات التي ظهرت باسم الدين، واقتضى الأمر مواجهتها تحت عنوان «مكافحة التطرف»، فهناك مئات الأشكال الدينية وشبه الدينية غير العنيفة، والتي تقتضي المعرفة والتصرف بما يتجاوز مسألتي السنة والبدعة. ولذلك قلت: هناك حاجةٌ شديدةٌ للمعرفة والاستيعاب بما لا تحتمله البنى والاهتمامات الحالية. نحن محتاجون إلى فلاسفة واجتماعيين وإعلاميين جديين لدى تلك المؤسسات أو إلى جانبها، لأننا إذا كنا قد ظللنا طوال القرن العشرين نتتبع بالاستغراب والاستنكار ظواهر ومظاهر الإعراض عن الدين، فنحن مسؤولون تجاه هذا الإقبال المنقطع النظير على الدين بالسلب والإيجاب. وقد جمعتُ ما نحتاج إليه تحت مصطلحي التأهل والتأهيل. التأهل بالمعرفة والفهم والمتابعة. والتأهيل باجتراح الأساليب التي تمكننا من مواجهة التحديات الجديدة.
أما الأمر الآخر أو المسألة الأُخرى، فتتعلق بطبيعة العلاقة بين المؤسسات الدينية والدول الوطنية في الأزمنة الجديدة. كان يقال إنّ المؤسسات تابعة للدول، وكان ذلك بين أسباب قصورها وتقصيرها. لكنّ الدول الآن، وبسبب الظواهر الجديدة التي ذكرناها محتاجة إلى مؤسسات دينية فاعلة ومتحركة ومزدهرة. ولذلك هناك حاجة ملحّة لعقدٍ جديدٍ إذا صحَّ التعبير عمادُهُ الانسجام بين الطرفين لمصلحة الدين والدولة معاً. فالدول مهمتها حُسْن إدارة الشأن العام. والمؤسساتُ الدينية مهمتُها العناية بالشأن الديني من خلال أربع وظائف: رعاية وحدة العقيدة والعبادة، والتعليم الديني، والتقوى والإرشاد العام. وكلتا الإدارتين لا تنافُسَ بينهما بسبب اختلاف المهام والوظائف. وإنما يحتاج الأمر إلى تمكينٍ متبادَل، لكي يستطيع كلٌّ منهما القيام بمهامه بسلاسة. ما شاركت المؤسسات الدينية بعامةٍ في الاشتباك الذي حصل بين الدين والدولة، لكنها لم تستطع مقاومة الانشقاقات العنيفة على الوجه المرغوب. ولذلك يحتاج الأمر إلى تقديرٍ وإقدار، وقد بدأ ذلك يحصل بالتدريج، إنما المطلوب أن يتمَّ ذلك بوعيٍ وتفهمٍ وتفاهُم وإنْ في مدياتٍ متطاولة. لقد بادرت الدول، فينبغي أن تُبادر المؤسسات بالعقليات الجديدة، وبالإدراك الجديد للمهمات والمسؤوليات والفرص.
*أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية