مازلنا في منتصف صيف عام 2018 الذي أثبت بالفعل أنه واحد من فصول الصيف التي سجلت أعلى درجة حرارة في النصف الشمالي من الكرة الأرضية. وأبرز تأثيراته حتى الآن هو الحرائق المتعددة التي انتشرت عبر أوروبا لتبدأ من شرقها في اليونان لتمتد إلى إيطاليا وإسبانيا. وفي أميركا الشمالية، نشب عدد من الحرائق الشديدة في كاليفورنيا ومنطقة جبال روكي وفي الجنوب الغربي من الولايات المتحدة مما اُعتبر ظاهرة غير مسبوقة في عدد الحرائق ونطاقها. وتواجه شمال أوروبا، وخاصة بريطانيا، أسوأ موجة حرارة منذ عام 1976. كما كان التأثير الاقتصادي للحرارة والحرائق غير مسبوق أيضاً.
وانهمك الشرق الأوسط في مجموعة أزمات دارت حول موارد المياه. وبلغت الأوضاع في العراق وسوريا وإيران واليمن نقطة حرجة أثرت بشكل مدمر على الزراعة والبشر والحيوانات. والصراعات على إمكانية الحصول على موارد المياه أصبحت خطيرة بشكل خاص بين العراق وتركيا لأن الأخيرة تستخدم حصة تتزايد من المياه في زراعتها، ومشروعاتها للطاقة مما يستنفد المياه التي تدفق في رافدي دجلة والفرات إلى العراق. والتوترات تتصاعد أيضاً بين مصر وإثيوبيا على بناء سد «النهصة» الإثيوبي الذي تعتقد مصر أنه سيقلص كثيراً ما يتدفق اليها من مياه في نهر النيل.
وفي الأشهر الثلاثة الماضية، حطمت درجات الحرارة في منطقة تمتد من الجزائر إلى باكستان الأرقام القياسية المسجلة. وعاشت اليابان واحداً من أكثر مناخاتها حرارة، ولقي 100 شخص حتفهم هناك في حالات وفاة نُسبت أسبابها إلى الارتفاع الشديد في درجات الحرارة.
والظروف الفريدة للصيف الجاري أثارت مرة أخرى أسئلة عن التغير المناخي الناتج عن النشاط الإنساني، وعن مدى مساهمة هذا النشاط كعامل أساسي في ارتفاع درجة الحرارة ونشوب الحرائق التي تسببت في كثير من الأضرار. فقد دأبت إدارة ترامب على انتقاد وجهة النظر التي مفادها أن النشاط الإنساني يساهم بشكل أساسي في ظاهرة الاحتباس الحراري. وقبل أن يصبح دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة أكد أن الفكرة برمتها روجتها الصين كي تفرض كلفة كبيرة على الاقتصاد الأميركي عن طريق تقليص انبعاثات ثاني أكسيد الكربون مما يعود بالفائدة على العملاق الآسيوي. ولم يكرر ترامب هذه الحجة لكن أنصاره الأساسيين، ومن بينهم مسؤولون معنيون بسياسة الطاقة والبيئة يدافعون حالياً عن أن الولايات المتحدة على صواب حين انسحبت من اتفاق باريس لحماية المناخ الذي تم التوصل إليه في عام 2015 لأن بنود الاتفاق من شأنها أن تفرض جزاء غير عادل على الاقتصاد الأميركي، وأن أهدافه إذا تحققت فلن يكون لها إلا تأثير طفيف على تقليص انبعاثات ثاني أكسيد الكربون وتقليص الاحتباس الحراري في الكرة الأرضية.
ولم تنسحب دول أخرى من اتفاق باريس، بل أصبح هناك اتفاق أكبر في الآراء في دول صناعية أخرى منها الصين مفاده أن مساهمة البشر في ظاهرة الاحتباس الحراري أمر واقع. والجيد في الأمر هو أنه في داخل الولايات المتحدة ذاتها، يتزايد عدد مسؤولي الولايات والمحليات، بدءاً من حاكم ولاية كاليفورنيا ووصولاً إلى رؤساء بلديات المحليات في جنوب كاليفورنيا، الذين يعتقدون أن التأثير الاقتصادي لظاهرة الاحتباس الحراري كبير للغاية مما يستوجب اتخاذ إجراءات بصرف النظر عن رغبات البيت الأبيض. وعلى هذا المستوى من الحكومات، لم تعد القضية تتبع التقسيمات الحزبية. وعلى سبيل المثال، أصبحت صناعة الاستثمار العقاري تدرك أن الاستمرار في الترويج للمنازل الفاخرة على امتداد السواحل البحرية التي تتعرض مراراً لعمليات فيضان تحفها مخاطر كبيرة مما يؤدي إلى معدلات تأمين مرتفعة للغاية لا يمكن تحملها دون دعم من الحكومة الاتحادية.
وفي شمال أوروبا، أصبح تكييف الهواء، وهو يمثل تكلفة اقتصادية كبيرة، ضرورة حالياً للفنادق والمسارح ووسائل النقل العام إذا أرادت مدن مثل لندن وباريس أن تظل مقاصد سياحية مربحة ذات إقبال جماهيري في المستقبل. وعلى سبيل المثال، هناك أربعة فقط من خطوط قطارات الإنفاق المتعددة في لندن مكيفة الهواء وهذا في الأساس لأنها ليست عميقة بما يكفي تحت الأرض، لكنها تسير بالقرب من السطح.
وبلغت درجات حرارة هذا الصيف في خط «سنترال لاين» الذي يُستخدم على نطاق واسع 36 درجة مئوية. وبلغت درجة الحرارة على الأرصفة في محطة هولبورن 45 درجة مئوية. وكل الخطوط الجديدة التي يجري مدها بما في ذلك خط «كروس ريل» الذي يبلغ طوله 118 كيلومتراً سيجري تكييف هوائها. وتأثير تطرف درجات الحرارة وتقلص موارد المياه في الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا لا تهدد حياة ملايين الأشخاص فحسب لكنها تفاقم احتمالات نشوب صراعات بين الدول. وتأثيرات ظاهرة الاحتباس الحراري لم تعد تحدياً ننتظره في المستقبل للكوكب، بل أصبحت احتمالاته وكلفته بين أيدينا وما لم يجر بذل جهود لتخفيفها فإن المخاطر ستتفاقم.
*مدير البرامج الاستراتيجية بمركز «ناشونال انترست»