تمر الأمة العربية في هذه الحقبة من تاريخها بمرحلة حرجة، فهي إما أن تستعيد مجدها التليد، أو تستعد للانقراض كما حدث لأمم من قبل. المنعطف الذي نمر به تواجهنا خلاله تحديات داخلية وخارجية، فهناك خطر الإرهاب بشتى مسمياته، وهناك تدهور الاقتصادات وعقباته، وفوق ذلك، فقدان الأمن والأمان والدخول في صراعات تمزق لحمة الأوطان.. هذا داخلياً، أما خارجياً، فالعرب مستهدفون من العدو الجار قبل البعيد من الدار. لستُ متشائماً، لكنها قراءة للواقع بعد الاطلاع على نزر لا بأس به مما نشرته المراكز العالمية عن الدول العربية وأوضاعها. فما هو المخرج من هذا المأزق الخانق والمنحنى الحرج؟ من يدرس التاريخ بشتى فصوله يجد أن العلم والمعرفة هما ما ارتقت بهما الأمم، وأنه كلما زاد نصيبها من العلماء في شتى المجالات، كان حظها للارتقاء الحضاري أكبر من غيرها، فالمفكرون هم الثروة التي تتسابق نحوها الأمم في زمن اقتصاد المعرفة، بل إن مقياس الارتقاء الحضاري بينه وبين العلماء اقتران شرطي، فما أحوج أمتنا العربية اليوم لإحياء قيمة العقل الذي نواجه به شرور الجهل، ونبحر به إلى شواطئ الأمل! فهل انقرض المفكر العربي؟ من يتابع أحوال كثير من الشعوب العربية عن قرب، ويتأمل في ما تتقاذفه قراطيسها ومدوناتها، يجد انتكاسة غير مسبوقة، حتى ليكاد الإنسان يفقد الأمل في إيجاد العمق المعرفي في زمن مال فيه البعض إلى السطحية، فلكأن العقول العربية في زمن الأفول، ونحن نغرد في آخر الفصول التي تسبق الانقراض الحضاري، لكن من يتأمل في حال العقول العربية المهاجرة، يجد أمراً غريباً، فقد نجحت تلك الأدمغة المهاجرة في أن تكون رقماً صعباً في العطاء الحضاري، لكن لماذا خارج أوطانها حصراً؟ وما الذي ينقص نخبنا الفكرية في الداخل العربي كي تنشط فيه حركة الفكر كما هي نخبتنا في المهجر؟ كلمة السر في هذه ذلك التباين ربما تتلخص في الحرية المسؤولة، فالعقل البشري ينشط إبداعه الإيجابي مع الحرية، وتميل قدراته إلى السكون والأفول في عالم الخوف وانعدام الأمان الفكري المطلوب للحراك العقلي. التقيت أحد علماء العرب المهاجرين في الغرب، وكان متخصصاً في برمجيات الذكاء الاصطناعي، ويعمل تحت قيادته أكثر من خمسين عالماً في بلد هجرته، فسألته عن سر تميزه، فقال: الحرية، فهم لا يهتمون كثيراً بأفكاره الخاصة ومعتقداته التي يؤمن بها أو طقوسه التي يمارسها، لكنهم حريصون على تأمين ما يجعله ناجحاً متميزاً في علمه وفكره، منتجاً لمجتمعه أفضل ما عنده، فهذا مقياس الولاء عندهم. في عالمنا العربي نحرص كثيراً على إبراز أنصاف العقول، وجعلهم قدوات مجتمعية يعرف من يتعامل معهم ضحالة فكرهم وبوار تجارتهم وفشل تجاربهم، لكننا أضفينا عليهم قدسية العلماء، وألبسناهم رداء الحكماء، مقابل هؤلاء همشنا عقولاً كان من الأولى حسن استثمارها، لا لشيء سوى أننا نختلف معهم في جزيئات يجوز فيها تعدد الآراء ويقبل معها الاجتهاد.. فهذا الأمر أدى إلى الصمت الاختياري الذي اتخذه المفكر العربي خوفاً من المساءلة أو الضرر الذي قد يناله. إن العقول العربية اليوم تتلخص قصتها في فصلين، إما أن تكون مهاجرة أو مهجورة.. المهاجرة وجدت ضالتها عند غيرنا فاستفاد من خيرتها، أما المهجورة فتعيش صراع إقدام وإحجام، إن أقدمت وأبدت وجهة نظرها كانت مساءلة ومشكوكاً في طرحها، فقرر الكثير منها الإحجام عن إبداء وجهة نظره، إيثاراً للسلامة، وهنا تكمن الخسارة، لأننا لن نصنع بذلك حضارة.