في تحليل العلاقات الدولية لمنطقتنا مع الأطراف الخارجية، خاصة الدول الكبرى، يتم التركيز بالطبع على الولايات المتحدة، وكذلك روسيا، وأيضاً بريطانيا وفرنسا، وغيرهما من الدول الأوروبية الأخرى. لكن هناك عدم معرفة بالصين واستراتيجيتها في المنطقة، وهذا غير منطقي وغير طبيعي، لأننا عندما توقعنا مثلاً في القرن الماضي أن الحادي والعشرين سيكون قرناً آسيوياً، كان هذا بسبب النفوذ الدولي المتزايد للنمور الآسيوية، وفي مقدمتها الصين، بل هناك الآن بعض التنبؤات الأميركية التي تقول إن الصين كقوة عالمية عظمى ستسبق الولايات المتحدة بحلول عام 2050. ألا يجدر بنا إذن أن ننظر عن كثب إلى هذا العملاق، وأهدافه في منطقتنا، حتى نخطط علاقتنا معه؟ والحقيقة أن العلاقات العربية الصينية المعاصرة بدأت في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، حين كانت الثورة الناصرية في بداياتها، وفي صدام مع القوى الغربية الرئيسة، مثل بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة، بسبب الوجود الاستعماري في المنطقة. في تلك الفترة مثّلت حرب فرنسا في الجزائر انشغالاً كبيراً للشعوب العربية، إلى جانب محاولة واشنطن ولندن فرض سياسة الأحلاف ضد الاتحاد السوفييتي والصين في ذروة الحرب الباردة، وهو ما اعتبره عبدالناصر، وغيره من القوميين العرب، «استعماراً جديداً»، لذلك قاوموا سياسة الانخراط في تلك الأحلاف الغربية التي ليس للعرب ناقة فيها ولا جمل، وأعلنوا سياسة عدم الانحياز. كان الرد الغربي هو فرض الحصار الاقتصادي عن طريق منع استيراد السلاح، وتضييق الخناق على تصدير السلعة الرئيسة في الاقتصاد المصري حينذاك ألا وهي القطن. في هذه الأثناء وصل عبدالناصر ليحضر أول مؤتمراته الدولية في باندونج بأندونيسيا عام 1955. في ذلك المؤتمر الأفروآسيوي، قابل لأول مرة رئيس الوزراء الصيني «شو إن لاي»، الذي سأل عبدالناصر عن الطريقة التي تستطيع بها الصين مساعدة مصر في مواجهة الحصار الغربي. ولما تكلم عبدالناصر عن مشاكل تصدير القطن المصري، أجاب «شو إن لاي» بأن الحكومة الصينية برئاسته تستطيع أن تصدر قراراً بأنه على كل مواطن أن يزيد من طول سرواله أو جلبابه بحوالي سنتيمتر واحد، وأن مثل هذا القرار كفيل باستيراد كل محصول القطن المصري. وبالنسبة لعبدالناصر، كان ذلك مؤشراً مبكراً على قوة الصين، والذي في الواقع أكدته بكين بأن أصبحت الوسيط في صفقة الأسلحة الروسية مع مصر، الصفقة التي كسرت في ذروة الحرب الباردة الاحتكار الغربي لتوريد السلاح في المنطقة. في تلك الآونة أيضاً كانت جمهورية الصين الشعبية، بسبب الضغط الأميركي، تواجه حصاراً عالمياً، وكانت تحتل مقعدَها الدائم في مجلس الأمن الجزيرةُ الصينيةُ المنشقةُ تايوان، المعروفة باسم «الصين الوطنية». واستطاعت الصين إنهاء عزلتها بداية من مطلع سبعينيات القرن الماضي، بعد زيارة سرية لهنري كيسنجر، مستشار الأمن القومي الأميركي الأشهر، إلى بكين، أعقبتها زيارة رسمية من الرئيس نيكسون في سنة 1971، فاحتلت الدولة الأعظم سكانياً في العالم، أي جمهورية الصين الشعبية، مقعدها الدائم في مجلس الأمن الدولي. وبالطبع فقد تقاطرت مواقف دول العالم، ومنها الدول العربية، معترفةً بالوضع الجديد للصين الشعبية كدولة عضو في الأمم المتحدة وذات عضوية دائمة في مجلس الأمن الدولي. وسنتعرض في المقالة القادمة للسؤال المهم: هل من استراتيجية شاملة لدى الصين؟ وما هي هذه الاستراتيجية؟ وما العناصر والآليات الرئيسة المستخدمة لتحقيقها؟