من الضروري أن تتضمن المناهج التعليمية مساقاً واسعاً وعميقاً للتربية المدنية، يقوم على مبادئ أولها المواطنة الفعالة، أي المواطنة الواعية والمسؤولة والأخلاقية، التي ترسخ قيم الجماعية والتعاون والغيرية والشعور بالآخرين والديمقراطية. وثانيها الصالح العام، حيث تعمل المؤسسات التعليمية على خلق المواطن الذي يخدم «الخير المشترك» ويسعى لتحقيقه، وتفتح نقاشاً عميقاً حول هذه المسألة، وتشجع الانخراط في الأعمال التطوعية والصداقة والانفتاح على مصالح الآخرين. وثالثها خدمة المجتمع، التي تعد التجسيد العملي لمبدأ تغليب «الصالح العام»، ولا يقتصر مردودها الإيجابي على المجتمع فحسب بل ينسحب على الفرد أيضاً، إذ أن برامج تعلم الخدمة تدعم الإنجاز الأكاديمي والكفاءة والثقة بالنفس وتقدير الذات، وتنمية روح التعاطف مع الآخرين، وتعزيز مهارات حل المشكلات، بل وتفيد في فرص الحصول على الوظائف. والمبدأ الرابع هو التعددية والتنوع، حيث توظف التربية في دعم التنوع الخلّاق، والاختلاف الطبيعي والطوعي بين البشر، بما ينمي قدرة المتعلمين على التعايش والتسامح والاعتراف بالحقوق والحريات الأساسية، ورفض كل أشكال العنصرية والتمييز. أما الخامس فيتعلق بالهوية الثقافية بغية تعزيز قيم الأصالة دون الانغلاق على الذات والانقطاع عن العالم والتصادم مع التقدم والوقوف ضد المعرفة والعلم والأخذ بالجديد والمستحدث والمفيد والنافع. والسادس هو الاهتمام بالثقافة السياسية، وذلك لترسيخ المعارف والقيم والتوجهات والتدابير التي تعزز الانتماء والمشاركة، وتفهم وجود الآخرين ومصالحهم، وتجنب العنف. وأخيراً، ووفق ما أورده مصطفى قاسم في كتابه المهم «التعليم والمواطنة»، يجب تحويل المؤسسات القائمة على التعليم إلى بيئات تعليمية جاذبة ومحببة للمتعلمين، تقوم على مبدأ التربية وفق قيم التسامح، والمواطنة، والعقل، والتفكير الحر، وعدم تقديس نصوص القدامى أو رفعها من مرتبة الرأي إلى مرتبة النص الديني الملزم، ونبذ التعصب والعنف، واحترام الآخر، ومواجهته بالحوار والحجة، ونبذ العنف بما فيه العنف اللفظي، والاعتراف بالحق في التنوع والاختلاف، وإعلاء روح الجماعة والمصلحة العامة بدلًا من الأنانية والتطرف والانغلاق، وتنمية مفاهيم النقد المعرفي والعلمي والتعلم الذاتي.. ويتعين أن تجد هذه المنظومة من القيم مكانها في مقررات المدارس والجامعات، من أجل أن تتشبع بها الأجيال الجديدة، وتتحلى بها تفكيراً وسلوكاً. كما يجب أن تلتفت المناهج التعليمية إلى تدريس عدد من المساقات، ومنها المواطنة، عبر السماح للمتعلمين بمعالجة مسائل الحقوق والمسؤوليات في مجتمعات متنوعة، والعدالة، والهوية، ومفهوم الانتماء.. وهو ما يتيح فرصة لمناقشة مبادئ حقوق الإنسان الأساسية والحريات العامة، ومنها تدريس التاريخ، خاصة الإبادات والفظائع الجماعية، بغية إشراك الطلاب في تأمل الآثار المدمرة للكراهية والعنصرية والعنف، وأيضاً تدريس الأديان والمعتقدات، لتعلّم احترام التنوع الديني والمذهبي وتجنب الانزلاق إلى السجال العقائدي، فضلا عن اللغات للتعرف على ثقافات الشعوب المختلفة وتطوير مهارات النقاش الشفاهي مع الآخرين، والفنون لتعزيز فهم وتثمين الشعوب والثقافات والتعابير الفنية المختلفة. يمكن رؤية الفن كلغة عالمية تربط المجتمعات والثقافات عبر الزمان والمكان. إنه يتيح الفرصة لمناقشة كيف أن النكران وتدمير التراث الثقافي والفني بسبب التطرف العنيف هو خسارة للبشرية جمعاء. ومن الضروري أيضاً الاهتمام بمسألة حرية التعبير والمساواة بين الجنسين. وإلى ذلك فثمة ضرورة لتربية أجيال من المتعلمين المستنيرين ورعاية المبدعين وزيادة جرعات المعرفة والعلم من خلال عدة عناصر، أهمها القدرة على اتخاذ القرار الرشيد، وإجراء توازن بين العقل والعاطفة، والتحكم في الذات، ونفع الآخرين، والتوازن بين ما هو كاف وما هو ضروري، مع التأكيد على أهمية التوازنات بين الدين والتعليم لخدمة الأمة. ويستلزم تطوير التعليم المنشغل بالتربية المدنية، ليس فقط الدراسة والبحث واستخراج النتائج، بل أيضاً اقتناع المسؤولين والعاملين في قطاع التعليم بأهمية التطوير وضرورته وإشراك وسائل الإعلام في التوعية بأهداف وأهمية هذا التطوير. لقد كان التعليم في المجتمعات القديمة يقوم على أساس خدمة الأشخاص الذين يتعلمون، في حين اتسع مفهومه ليصبح المتعلم شخصاً قادراً على تحقيق مزايا لنفسه، ونفع المجتمع المحيط به، مما جعل المفهوم الوظيفي أو النفعي للتعليم هو الصفة التي يتميز بها التعليم الحالي، فنحن لا نتعلم لنعمل فقط، إنما أيضاً لنعي ونتحضر ونتعايش ونتسامح.