كتبت في المقالة السابقة بعنوان «النظام الدولي إلى أين؟» عن اتجاه البنية القيادية للنظام للعودة إلى النموذج التعددي بعد عقدين تقريباً من أحادية قطبية سادت بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، ثم أضفت أن ثمة اتجاهات أخرى تشير إلى تحولات محتملة في النظام الدولي اخترت منها ثلاثة كان أولها الانشقاق في التحالف الغربي نتيجة توجهات ترامب، سواء من منطلق أن شركاء حلف «الناتو» لا يتحملون نصيبهم العادل من العبء المالي للحلف، أو بسبب سياساته الحمائية التي أفضت إلى نذر حرب تجارية أشرت بشأنها إلى أن قوة عالمية كالصين طرفٌ في الحرب، ما يصعب إمكانية حسمها لصالح الولايات المتحدة. والواقع أن الصين حاضرة بقوة في تحولات النظام الدولي برمتها، وهي واحدة من أهم القوى المؤهلة لدور قيادي عالمي تمارسه حالياً بالفعل. أما عن الحرب التجارية فمن المؤكد أن الصين سوف تكون حائط الصد الأساسي للسياسات الأميركية الجديدة. فما هي مقومات الدور الذي باتت الصين تقوم به في السياسة العالمية، والمرشح للتبلور والتصاعد في المستقبل المنظور؟ تستند القيادة إلى مقومين، يتمثل أولهما في عناصر القوة المادية التي تتوافر للدولة الطامحة للقيادة، وثانيهما في المشروع السياسي الذي يتضمن الرؤية الفكرية والأهداف المنوي تحقيقها والأساليب المتبعة لذلك. وفي مجال القوة المادية تتمتع الصين بمقومات عديدة، لكن اللافت أنها تمكنت من توظيف هذه المقومات بنجاح حتى أضحت قوة اقتصادية عالمية يرشحها محللون كثيرون لتبوؤ المكانة الأولى في الاقتصاد العالمي في المستقبل المنظور، بل حققت السبق بالفعل في مؤشرات بعينها. فبينما كان الناتج المحلي الأميركي عقب الحرب العالمية الثانية أقل قليلاً من نصف الناتج العالمي، وكانت اقتصادات أوروبا والاتحاد السوفييتي واليابان والصين خربة، مرت عقود تغيرت خلالها الحقائق الاقتصادية لنصل في عام 2015 إلى أن تكون نسبة الناتج القومى الإجمالي الأميركي الحقيقي إلى الناتج العالمي 16.1%‏، بينما نسبة الصين 17.1%‏، وهو ما يُعَد نتيجة طبيعية لمعدل النمو الصيني المرتفع الذي بلغ 8.1%‏ خلال السنوات بين 2009 و2017، بينما بلغ نظيره الأميركي في السنوات نفسها 1.6%‏. وقد شهد عام 2005 صعود الصين للمرتبة الأولى عالمياً كأكبر مصدِّر للسلع، ومنذ ذلك الوقت لم تفقد هذه المكانة، لذا يبدو طبيعياً أن تتمتع بأكبر فائض تجاري في العالم مقابل عجز تجاري أميركي مزمن. وفي ضوء الحقائق السابقة بات كثير من المحللين الاقتصاديين يرون أن عصر الهيمنة الاقتصادية الأميركية قد أفل، لذلك حين وقعت الأزمة الاقتصادية العالمية في 2008، كانت الصين باحتياطياتها الهائلة هي القاطرة التي قادت الاقتصاد العالمي إلى التعافي. وبطبيعة الحال تبقى الولايات المتحدة القوة المتربعة على القمة العالمية، بمعايير القوة العسكرية، لكن ثمة ملاحظات عديدة واجبة على هذه الحقيقة؛ أولها أن التفوق العسكري الأميركي ليس مطلقاً، فهناك القوة العسكرية الروسية التي استعادت عافيتها في ظل بوتين، كما أن الصين ليست قزماً عسكرياً بطبيعة الحال. وأخيراً وليس آخراً، فقد أثبتت الخبرة الماضية أن ثمة حدوداً لما تستطيع القوة العسكرية تحقيقه إذا افتقدت المقوم المعنوي المطلوب للقبول الطوعي بما تريده قوة كبرى أو عظمى ما، كما يظهر من تجربتي حرب فيتنام وغزو العراق، وهذا تحديداً ما تتفوق فيه الصين على الولايات المتحدة، بالإضافة إلى إنجازاتها الاقتصادية. فلا ماضي استعمارياً للصين ولا محاولات سافرة للهيمنة، وإنما كانت دوماً حريصة على أن تبدو بمظهر الدولة النامية التي تتوحد أهدافها مع دول العالم الثالث، كما أن مبادراتها الكبرى في الساحة الدولية، وعلى رأسها مبادرة «الحزام والطريق»، تقوم على مبدأ المنافع المتبادلة بعيداً عن نموذج الاستغلال والهيمنة الذي وسم التحركات الدولية للعديد من القوى العظمى. ولذلك فمن مصلحتنا، ونحن نسبح في بحر السياسة الدولية متلاطم الأمواج، وجود قوة عالمية كالصين، نستطيع من خلال نسج علاقات متكافئة معها، زيادة أوراقنا عدداً وفاعلية.