توفي «فؤاد سزكين» باسطنبول عن أربعة وتسعين عاماً، قضى ستين منها في ألمانيا، وكتب معظم كتبه بالألمانية. وما كانت بداياته الدراسية بتركيا، تشير إلى أنه سيفرّغ نفسه لتاريخ العلوم العربية. فقد كتب أُطروحته للدكتوراه عن صحيح البخاري، وخلال عمله ذاك حقّق مجاز القرآن لأبي عُبيدة معمر بن المثنى (-207هـ) عن مخطوطة نادرة باسطنبول. فمنذ أكثر من مائة عام يتعرض الحديث النبوي وكتبه لحملات من جانب المستشرقين، بدأت بغولدزيهر وبلغت ذروتها بشاخت وتلامذته. لذلك أراد «سزكين» خوض هذا التحدي، والذي كان أصحابه يرون أنّ «علم الحديث» مزوَّر كله من حيث الأسانيد والمتون ومصطلحات التلقي والسماع والحفظ والتدوين. وكان مستند المنكرين لصحة الحديث أنّ كتبه وأجزاءه إنما ظهرت في القرن الثالث الهجري وما بعد. أما سزكين فوجد مخطوطات فيها أسانيد، باسطنبول ودمشق وغيرهما، تعود لمطلع القرن الثاني الهجري. كما تتبع طرائق تلقّي الحديث، فوجد أنّ الحفظ الذي استصعبه المستشرقون، كان مقروناً بالتدوين، وأنّ مصطلحات مثل السماع والإجازة والوجادة والثقة والمعلوم.. إلخ، كانت لها مضامين دقيقة للغاية. وفيما بين اسطنبول وفرانكفورت حيث كان يدرّس أُستاذه «هلموت ريتّر»، أقنع ريتر تلميذه النشِط بإعادة النظر في كتاب بروكلمان الشهير «تاريخ الآداب العربية». وهو فهرس للتأليف والمؤلفين في الحضارة العربية الإسلامية يقع في ثلاثة آلاف صفحة، عمل عليه بروكلمان أكثر من عشرين عاماً. لكنّ بروكلمان مات عام 1956 وكان يُعدُّ لطبعةٍ جديدة من الكتاب. أما سزكين وريتر، المتبحران في مخطوطات اسطنبول وبرلين، فيعرفان أنّ بروكلمان نسي عشرات الألوف من المخطوطات، كما أخطأ كثيراً في الأسامي والنِسَب وأسماء المؤلفات والمؤلفين. وهكذا بدأ سزكين كتابه الضخم: «تاريخ الكتابة العربية» منذ 1962 وحتى 1990، وأصدر منه 12 مجلداً، كل مجلد يقع في ألف صفحة.. وهذا يشمل الثاقفة المدونة حتى العام 432هـ فقط! وخصص سزكين 5 مجلدات لتاريخ العلوم العربية، أي الكيمياء والفيزياء والفلك والرياضيات والطب والنبات والجغرافيا. وكما أقنع الألمان بنشر كتابه الهائل عن التأليف بالعربية، فقد دأب خلال رحلاته للتعرف على المخطوطات في البلدان العربية، على الإلحاح على المسؤولين العرب المعنيين بالثقافة، أن يساعدوه في إنشاء معهد لتاريخ العلوم العربية والإسلامية في إطار جامعة فرانكفورت. فتبرعت للمشروع كلٌ من السعودية والكويت وليبيا، وافتُتح المعهد عام 1977. قام المعهد بعشرات المهام ذات الطابع البحثي والكشفي في تاريخ العلوم: أنشأ مجلة أكاديمية لتاريخ العلوم، لكنها لسوء الحظ ما صدرت بانتظام. واستقبل عشرات الشبان الباحثين في تاريخ العلوم بمنَح للدراسة والكتابة، ونشر بطريقة الفوتوكوبي مئات المخطوطات النادرة للعلماء العرب القدامى، كما نشر مخطوطات نادرةً في علوم القرآن والحديث واللغة والجغرافيا والفلاحة. وأعاد تركيب أسطرلايات ودوائر هندسية ومختبرات لإيضاح التطور المتصل بين الإغريق والمسلمين والأوروبيين في شتى العلوم. لقد عمل سزكين، وفي كل مشروعاته الكبرى، منفرداً، لكنْ كأنه فريقٌ لشدة دأَبه. وقد غيَّر بالفعل الباراديغم في دراسات الحديث النبوي، وفي دراسات تاريخ العلوم. وما كان متكبراً، لكنه كان يشعر بالإهانة الشديدة إذا أُنكر عليه إنجازه، أو انتحل أحدٌ من آثاره شيئاً. لذلك فقد تعددت دعاواه أمام المحاكم بشأن النقل عنه دونما ذكر، أو بشأن إنجاز هذه المعادلة أو تلك من إنجازاته. وقد سيطر عليه في العقدين الأخرين الإحساس بأنّ عامة المسلمين يجهدون لاعتبار الإسلام ديناً، دونما اهتمام بكون الإسلام حضارةً كبرى أيضاً. قال لي: عند العرب، وفي تركيا وإندونيسيا، الهم الأول تطبيق الشريعة، والفحص عن مدى اتّباع الإسلام هو مشغلة كل أحد. وأنا لا أُنكر أنّ هناك أناساً مهتمين بالبحوث الحضارية، لكنهم قليلون جداً. هم يريدون استئناف مسيرة الدين وهي لم تتوقف، وأنا أريدهم أن يستأنفوا مسيرة هذه الحضارة العظيمة! حصل فؤاد سزكين على جائزة الملك فيصل في الدراسات الإسلامية عام 1979، وألقى بعدة بلدانٍ عربية محاضرات في تاريخ العلوم وحول فكرة الانحطاط التي تشبث بها المستشرقون وكثير من العرب. قال في إحدى محاضراته: لقد تعمدت إعادة اكتشاف وعرض المنجزات العلمية في القرون المتأخرة، لإثبات أنه لم يحصل انحطاطٌ في الحضارة، والذين قالوا ذلك كانوا متحزبين للغرب أو كانوا جهلة تلقوا شائعاتٍ فصدّقوها وما فحصوها، والإنسان عدو ما جهل!