النقاشات الفكرية الساخنة ظاهرة صحية وضرورة حضارية، لكنها أحياناً (تورط) المرء في خسارة لبعض أصدقائه، والحقيقة أن الإصرار على احتكار المعرفة والرأي، هو ما يفسد العلاقة بين المتحاورين، فيقع الخلاف والقطيعة. من أهم الموضوعات الخلافيّة في العقود الماضية، مصطلح العولمة والنظام العالمي الجديد، وهو عنوان كبير، اختلف الغرب والشرق على مفهومه، واختلف العرب على تعريفه، وطرحت أسئلة: ما مفهوم العولمة، هل هي مفيدة لنا أم سيئة، ما الذي علينا فعله، ما دورنا فيها؟ في كتاب (جحيم نيوتن، دار التنوير 2017)، وجدت ما يوضح هذا الانقسام على المصطلع المذكور، بين مؤيد ورافض، والفريق المؤيد، كما بيّن المؤلف عبدالعزيز جاسم، فإنه (يسعى وبما أوتي من قوة لإقناع العالم بفوائد العولمة وخيراتها، معتبراً إياها بأنها النظام الاستراتيجي الوحيد والأوحد الذي لا محيد عنه لإنقاذ العالم، وتحقيق الاستقرار والرفاه العالمي للبشرية كلها، في عالم افتراضي حر وبلا حدود). أما الفريق الرافض للدعوات العولمية، فإنه (ما زال ينظر لهذا النظام الرأسمالي النيو ليبرالي على أنه ليس أكثر من نظام امبريالي ما بعد حداثي، يعود بأساليب ونظم واستراتيجيات وقواعد وتقنيات مختلفة ومتطوّرة، لكي يلعب لعبته القبيحة التي تمرّس عليها عبر القرون، في نهب مقدرات الشعوب المستضعفة، وتذويب هوياتها وثقافاتها، وافتعال القلاقل والحروب فيها، وتمزيق أوصالها واختراق حدودها، وفرض نظام استهلاكي معمم عليها، لن يزيدها إلاّ هواناً على هوانها، وتخلفاً على تخلفها، وتبعية مُذلة على تبعيتها لإمبراطوريات الشمال، ولمؤسساتها الاقتصادية وشبكاتها الإعلامية العابرة للقارات). وبتحديد أدق، فإن مجمل نقاشات المؤيدين والرافضين، كما يقول عبدالعزيز «تمركزت في الغالب في أربعة خطابات مختلفة، ومرتبطة بظاهرة العولمة وهي الخطاب الاقتصادي، والسياسي، والتقني/الإعلامي، والثقافي». ويبدو أن هذه الخطابات الأربعة باتت شبه معروفة لدى كثيرين، إلاّ أن هنالك خطاباً جرى إهماله، هو (الخطاب الفلسفي الذي نظَّر للعولمة، وقد ظل متوارياً ومهمشاً في الغالب، برغم وجود عدد من الأطروحات المهمة التي حاولت تفسير الظاهرة، وتفكيك منظوماتها العنكبوتية) فماذا قال هذا الخطاب الفلسفي؟ المؤلف في مقاربته للخطاب الفلسفي، ولبناء مداخلته المهمة، اتكأ على ما ذكره محمد عابد الجابري، في مؤلفه «العولمة ومسألة الهوية»، مجلة فكر ونقد، 1999، حيث قال الأخير:(إن عالم الغيب ينقسم إلى ثلاثة عوالم مختلفة عرفها الجنس البشري منذ أن وجد، أولها وأقدمها، عالم الغيب الديني، وثانيها، عالم المُثل، وثالثها عالم الخيال العلمي بوصفه عالم الغد. وهذه العوالم تقف كالظل للعالم الواقعي.. واقعنا الذي نعيشه، وتقدِّم الكمال). ويمضي الجابري قائلاً إنه وعبر تكنولوجيا الإعلام والاتصال (أوجدوا عالماً للغيب جديد، بخلاف العوالم الثلاثة المذكورة، وهو عالم تبسطُهُ وتسيطر عليه شبكات الاتصال المعلوماتيّة - الانترنت). توافقاً وتعزيزاً، يطرح عبد العزيز جاسم مقتطفاً من أطروحة الفرنسي(جان بودريار) في كتابه (أطروحة موت الواقع، دارتوبقال -2006)، يقول جان:(إذا تمكنا من تحويل الواقعي إلى افتراضي، حينها يصبح الواقعي وظيفة زائدة، وإذا نجحنا في ضخ الواقعي في اللغة الرقمية والإعلاميّات، فسينشأ واقع افتراضي معمّم). بعبارة أخرى، يقول بودريار:(إذا نجحنا في تحقيق مثل هذا التجريد الشامل - أي الواقعي إلى افتراضي معمَّم - فلن نحتاج للجسد الذي لن يعود ضرورياً للقيام بعملياته الطبيعية)، وفي هذا إشارة إلى عمليات الاستنساخ التي (ستصبح جزءاً من العالم الافتراضي في الغد).. الغد المُفارق للعالم الواقعي.