يخطئ من يظن أن العالم يمكن أن يكون على نسق واحد وأن يكون مرجعه خاضعاً لقواعد موحدة فكرياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً، بل وإننا بدأنا نلاحظ في كتابات كبار المنظرين الغربيين عن الديمقراطية يسائلون قيمة هاته الكلمة ومحدوديتها في بلورة أنظمة سياسية متشابهة يكون فيها حكم الشعب بالشعب، خاصة بعد وصول بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة إلى الحكم عن طريق صناديق الاقتراع في أقدم الدول الديمقراطية، ورغبة بعض التيارات الاستقلالية في الاستقلال عن الدولة المركزية، كما هو شأن كاتالونيا انطلاقاً من المواد الدستورية التي تسمح لها بذلك، ثم ردة فعل الدول المركزية بناءً على شروحات تعطيها هي بدورها لقواعد دستورية تسمح لها بتقويض أسس هذا الانفصال. ومسارات الديمقراطية اليوم في دول أميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية وأوروبا الغربية، كلها تخضع لقواعد سلطوية وأخرى متفتحة. وإذا درست أسباب ذلك ستجد كنه الاختلافات يكمن في الفاعل الحضاري والثقافي لكل منطقة، بل ولكل دولة على حدة. وإذا أخذت مشاكل دولية أخرى، من قبيل المشكل الكوري الشمالي، ستجد أن الأبعاد الحضارية والثقافية تفسر الكثير مما يقع، وإذا لم يأخذها الفاعلون الكبار في الحسبان تكون النتائج المرجوة مبتورة. إن الحضارة هي ذات طابع مادي أو هي تتصل بالماديات التي تتواصل وتتعاقب بعفوية وتلقائية من بلد لآخر مع توالي العصور، مما تكاد به أن تكون واحدة، في حين تعتبر الثقافة أحد مقومات الهوية بالنسبة لأي مجتمع، وهي تتشكل من المكونات الروحية والفكرية والأدبية والفنية التي تختلف من كيان لآخر، علماً بأن هذا الكيان قد يكبر أو يصغر تبعاً لمدى اتساع الذات وما يكون فيها من تعدد وتنوع. فكل حضارة معينة تعكس المعتقدات والمبادئ والقيم التي تنبثق من روح الشعوب وتعبر عن روح الأمة التي تنشؤها، فلا يظنن ظان أنه يمكن لحضارة معينة أن تولد من فراغ. وتتألف الحضارة من عناصر أربعة: الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون.. فهي بذلك نظام اجتماعي معقد ومترابط يرتبط فيه الماضي بالحاضر، ويضم الفنون والآداب والمعتقدات والمعرفة والتقاليد. وقد حاول العديد من المختصين إعطاء تعاريف متميزة للحضارة، فهي: «الزائد على الضرورة من العمران» (ابن خلدون)، و«لكل حضارة دستور أخلاقي، يتجلى في العقيدة وقوة النفس» (أوزولد شبنقلر)، و«هي وحدة تاريخية (..) والاستجابة للتحديات عند الإنسان، فرداً أو مجتمعاً هي سبب نشوء الحضارة» (آرنولد توينبي).. إلخ. أما الثقافة فتشمل الأفكار واللغة والتقنيات والأعمال الفنية والأدوات، ويكون استعمالها لصيقاً بالبشر الذين يتوفرون على القدرة العقلية والتفكير المجرد، لذلك عرَّفها بعضهم بأنها «خاصة بالإنسان المفكر ‏Homo ?Sapiens ?إضافة ?إلى ?أشياء ?مادية ?يستعملها ?بوصفها ?جزءاً ?لا ?يتجزأ ?من ?السلوك»?. ?ولا ?يمكن ?حصر ?الثقافة ?في ?تعريف ?معين، ?فقد ?أحصا ?كروبر ?وكلوكهوهن، ?عالما ?الإنتروبولوجيا ?المشهورين، ?أكثر ?من ?160 ?تعريفاً ?للثقافة، ?منها ?أنها «?الأفكار ?الذهنية» ?و«?البناء ?المنطقي» ?و«?الخيال ?الإحصائي» ?و«?السلوك ?المتعلم» ?و«?آلية ?الدفاع ?النفسي» ?و«?التجريد ?انطلاقاً ?من ?سلوك»?. لا يجب أن يفهم كلامي أن الحوار، خاصة في الدبلوماسية والعلاقات الدولية وحل الصراعات، يكون بين الحضارات والثقافات، فهذه كيانات معنوية لا تتحاور فيما بينها، لكن أصحابها، انطلاقاً من الموروث الحضاري والثقافي عندهم، هم من يتحاورون فيما بينهم. إذا فهم رجل الدولة أو أي فاعل تاريخي أو سياسي ذلك، سيفهم أن محاوره يحمل معه أولا مسلماته الحضارية والثقافية وثانياً مسلمات دولية هي عبارة عن قواسم مشتركة، إذا فهم ذلك جلياً ووضع كل محاور نفسه في نفس الآخر تم الحوار الجاد والهادف والناجح وتم حل آلاف المشاكلات واحتُرمت خصوصيات كل مجتمع ومجموعة. سألت رجلاً حكيماً تقلد في حياته العديد من المناصب السامية وأجاد في بناء الدولة والمؤسسات وكوّن جيلا من رجلات الحكم، عن سر نجاحه، فأجابني بأنه دائماً ما يضع نفسه في نفس محاوره لكي يرى كيف يفكر ويرى الأشياء ويحكم عليها، آنذاك يمكن أن يحاوره ويخاطبه لأن أرضية الحوار غير المرئية تكون قد بنيت.