رأي أفلاطون في الفلاسفة أفضل الحكام. وشرح في كتابه الخالد «الجمهورية» نظامه الاجتماعي الذي سينتج في النهاية عباقرة السياسة والإدارة، ممن ينبغي عليهم أن يدرسوا الفلسفة بعمق قبل التخرج، وأن يتصفوا بضبط النفس والعواطف والرغبات الشخصية. من أبرز صفات العبقري في اعتقاد الفيلسوف الألماني شوبنهاور كذلك، أنه يملك أعصابه ويتحكم بحاجاته الجسمية والنفسية! ولكن كم من العباقرة والمشاهير كان هكذا؟ وكان الفيلسوف «شوبنهاور»، مثل صنوه «نيتشة» معادياً للمرأة، ويؤمن أن المرأة لا تبلغ «درجة النبوغ»، لأنها في اعتقاده «تعبد حاجاتها الجسدية»، وأنها ترى في كل جانب من جوانب الحياة «فائدة مادية بحتة». واحتقر الفيلسوف الألماني كالكثير من المثاليين الحاجات المادية للإنسان، ومضى هائماً حالماً، مستفيداً من ثرائه النسبي، في سماء الفكر المجرد، ووجه الكثير من سهامه إلى «البشر العاديين»! يقول إن الفرق شاسع بين العباقرة والأشخاص العاديين. فعامة الناس يعيشون ليأكلوا، وهم يفكرون في الحدود التي يمكن أن يلبوا بها حاجاتهم الجسدية والاجتماعية. كما أن أوقات الفراغ لا قيمة لها لديهم، فعامة الناس يعتقدون أن أي تفكير لا يهدف إلى مكسب مادي ضرب من الحمق والجنون. ويقول مفرقاً بين «العبقري» و«العادي»، إن النوابغ والعباقرة مثل النحل، يأخذون الرحيق ويخرجون العسل. أما باقي الناس فهم كالنمل، إذا حصلوا على شيء احتفظوا به كما هو. فعقول العباقرة كالطبيعة الخلاقة المتجددة، أما عقول عامة الناس، فهي كالمرأة التي تعكس الواقع كما هو. ولهذا نرى أن العباقرة يفتحون الآفاق الرحيبة أمامنا، ويمزقون الأستار والحجب، فعين العبقري وبصيرته ترى من الأشياء ما لا تراه عين الإنسان العادي أبداً. ويضيف في مقارنة: الأشخاص العاديون كالقمر، يستقون النور والعلم من الآخرين، أما العباقرة فهم كالشمس التي تشع دائماً نوراً وضياء. إن العبقري لا يعيش دائماً في إطار زمانه فحسب، بل هو يستطلع أعماق المستقبل. إن العبقري في مجتمعه مثل الإنسان الذي يعيش في جزيرة نائية بين القرود والببغاوات. ربما كان شوبنهاور من أواخر مَنْ هاجموا «الإنسان العادي»، أو «المواطن».. بطل القرن العشرين! هذا «المواطن»، الذي لم يكتسب مكانته التي نعرفها اليوم، إلا بعد تطورات القرن العشرين الطاحنة والمثيرة، من حروب عالمية وثورات سياسية وتطورات قانونية ومظاهرات ومسيرات، وصعود وزوال الأنظمة الدكتاتورية والاستبداديات الدموية. ولا شك أن الكثيرين من حكام «العالم الثالث» لم يكونوا فلاسفة أو عباقرة، وإن امتلأ بعضهم نضجاً وحكمة، للأسف.. بعد خراب البصرة! انتقالاً من السياسة والقادة والفلاسفة، هل للعبقري مخ متميز حجماً وتركيباً؟ وكيف يمكن أن نطرق موضوعاً كهذا دون أن نتحدث عن «مخ آينشتاين»؟ كان آينشتاين ولا يزال رمزاً للعبقرية في القرن العشرين. وكان هارباً من بلاده ألمانيا ومن طاغية العصر أدولف هتلر والنازية إلى أميركا، حيث تولى التدريس في جامعة «برنستون»، فربط علوم أوروبا بتقنية وثراء أميركا. ولا مجال بالطبع، ولا قدرة لي، للغوص في رياضيات صاحب نظرية النسبية الخاصة والعامة. وقد جرت عام 2011 محاولة لتحطيم معادلته عن سرعة الضوء لتنهدم بذلك ما قاله عن «علاقة المادة بالطاقة»، وادعى البعض أن في إمكان الجسيمات تحطيم حاجز سرعة الضوء المعروفة، 300 ألف كيلو متر في الثانية، محدثاً جدلاً فيزيائياً واسعاً انتقل بسرعة الضوء كذلك.. إلى عموم الصحافة! وكانت الثورة على نظرية النسبية مرافقة لـ«الربيع العربي» ونحن نعرف اليوم مصير الثورتين! حاول البعض الوصول إلى تعريف للعبقرية من خلال تحليل دماغ آينشتاين، حيث كان د. توماس هارفي، الطبيب الذي شرّح جثته في مستشفى برنستون، قرر سراً الاحتفاظ بدماغ نابغة العصر، من غير معرفة عائلته أو موافقتهم، كما يقول «ميشيو كاكو» في كتاب «مستقبل العقل» الذي تحدثنا عنه. «سلسلة عالم المعرفة، الكويت 2017، ص 166 - 167». قرأتُ ذات مرة أننا للأسف لن نعرف كلمات آينشتاين الأخيرة وهو على فراش الموت وعلى أبواب ذلك الكون المجهول الذي طالما تحدث عنه في نظرياته. والسبب أنه كان يتحدث أو ربما يهذي في سكرات الموت.. باللغة الألمانية! شغل مصير مخ آينشتاين الناس بعد رحيله، كما شغلتهم ولا تزال نظرياته واكتشافاته الكونية! يقول د. كاكو: «ما حدث لدماغ آينشتاين يبدو أشبه بقصة كوميدية منها بقصة علمية. وعد الدكتور هارفي أن ينشر نتائجه حول تحليل عقل آينشتاين، لكنه لم يكن اختصاصياً في الدماغ. واستمر في تقديم الأعذار. على مدى عقود وضع الدماغ في جرتين كبيرتين مملوءتين بالفورمالين - Formaldehyde وموضوعتين في صندوق عصير التفاح تحت مبرد للبيرة. كلف أحد الفنيين بتقطيع الدماغ إلى 240 قطعة وأرسل بعضها في أوقات نادرة إلى علماء رغبوا في دراستها. في إحدى المرات، أرسلت قطع منها إلى عالم في جامعة بيركلي في قارورة مايونيز! بعد 40 عاماً قاد الدكتور «هارفي» سيارته «البويك سكايلارك» عبر أميركا حاملاً معه دماغ آينشتاين في صندوق، آملاً أن يعيده إلى حفيده آينشتاين «إي?يلين». لكنها رفضت تسلمه! وبعد موت د. هارفي في العام 2007، أوصى ورثته بأن يمنحوا مجموعته من قطع وشرائح دماغ آينشتاين للعلم». ويضيف: «قد يتوقع المرء أن يكون دماغ آينشتاين أرقى من دماغ شخص عادي، وأضخم منه أيضاً، وربما بمناطق كبيرة بشكل غير عادي. في الحقيقة، اكتشف العكس تماماً، - إنه أصغر وليس أكبر من الدماغ العادي بقليل - بشكل عام، فإن دماغ آينشتاين عادي تماماً. لو لم يعلم عالم أعصاب أن هذا دماغ آينشتاين فمن المحتمل جداً أنه لم يكن ليهتم به للحظة». «ص 167». بعد هذا كله نتساءل: ما العبقرية؟ وكيف تقاس؟ وهل هي الوجه الآخر للجنون أم للعقل العادي؟