بعد نجاح الثورة الخمينية في عام 1979، توقع الكثير من العارفين بوضع إيران أن لا يعيش نظامها طويلاً. كان ما يدل على ذلك لجوؤها المبكر إلى قمع شرس لم يستهدف المؤيدين للشاه ونظامه فحسب، بل طال قوى الثورة نفسها، من «فدائيي الشعب» و«مجاهدي الشعب» وشيوعيي حزب تودة، إلى القطاع الإسلامي المعتدل أو المعترض على ديكتاتورية الخميني، والذي مثّله قادة كمهدي بازركان، أول رئيس لحكومة العهد الثوري، أو أبو الحسن بني صدر، أول رئيس لجمهورية ذاك العهد. لكن حماقة صدام حسين الكبرى، حين شن حربه على إيران، هي التي قدمت الهدية النموذجية لذلك النظام. فقد أمسك بتلابيب الحياة والسياسة الإيرانيتين، وعمّم تماثلاً كاذباً بين الوطنية الإيرانية واستمراره، كما مضى في هندسة الاجتماع الإيراني بما يخدم مصالحه وإحكام سيطرته. ولم يكن بلا دلالة أنه حين حاول صدام حسين وقف عدوانه وإيقاف الحرب، بات الخميني والمحيطون به يتمسكون باستمرارها وإدامتها. لقد كان لتلك الحرب، التي دامت ثماني سنوات وكلّفت مئات آلاف القتلى ودماراً اقتصادياً لا يوصف، فضل الحفاظ على النظام وتمتينه. فحين ارتكب صدام حسين حماقته الثانية بغزو الكويت، وضع العراقَ في مواجهة العالم وأتاح لإيران، مرة ثانية، أن تبدو جزءاً مقبولاً من النظام الدولي. وأخيراً، قدّم الغزو الأميركي للعراق في عام 2003، خصوصاً الانسحاب منه، هديّة للسلطة الخمينية لا تُقدر بثمن. هذا الاستشعار الإيراني بالقوة بلغ ذروته عبر التدخل المباشر في سوريا. لكنّنا، في الأشهر القليلة الماضية، ربّما دخلنا طور العد العكسي. فدولياً جدّ تطوران مهمان: من جهة، وبعد تعيين «الصقرين» مايك بومبيو وجورج بولتون في الإدارة، خرجت الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران. وإذا صح أن الأوروبيين لا زالوا يدافعون عن هذا الاتفاق، فإن الانسحاب الأميركي يجعله معدوم الفائدة تبعاً لتفاوت الوزن الاقتصادي وللإسهام الأميركي في تركيب السلع التي تسوّقها الشركات الأوروبية. أما من ناحية أخرى، فبات واضحاً وضوح الشمس أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لا يمانع في تحجيم الدور الإيراني في سوريا، وقد طالب علناً بخروج القوات الأجنبية منها، ما فُسّر على أنه دعوة إلى خروج الإيرانيين وميليشياتهم. والدليل الصارخ على هذه الوجهة زيارة رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو إلى موسكو وحضوره الاحتفال بهزيمة الفاشية في الحرب العالمية الثانية، قبل يوم واحد على احتفاله الدموي بنقل السفارة الأميركية إلى القدس. أما إقليمياً، فهناك أيضاً تطوران لافتان: من جهة، انكسار الهيبة العسكرية لإيران بعد الضربات العسكرية الإسرائيلية في سوريا، والتي لم تردّ عليها طهران. وإذا صحت رواية الجيش الإسرائيلي من أنه دمر البنية العسكرية الإيرانية هناك، فهذا يجعل ادعاءات الإيرانيين حول «تحرير القدس» و«إزالة إسرائيل من الوجود» أقرب إلى بروباغندا رخيصة ومثيرة للسخرية. أما التطور الثاني فهو ما تمخضت عنه الانتخابات العراقية الأخيرة، حيث خرج مقتدى الصدر وتحالفه بحصة الأسد. ومعروف أن الصدر بات الصوت الأعلى في نقد الإيرانيين وسياستهم العراقية، منازعاً إياهم على نفوذهم داخل الطائفة الشيعية ومحاولاً استنهاض وطنية عراقية تخاطب السنّة والأكراد فيما تثير لدى الإيرانيين أقصى الحذر. وإذا أضفنا إلى تلك العوامل جميعاً الوضع الداخلي، اكتمل بؤس اللوحة وسوادها. فالاقتصاد الإيرانيّ يعيش أسوأ أيامه، وهو ما يتبدى خصوصاً في التدهور اليومي للعملة الوطنية. وغني عن القول إن تجدد العقوبات سيدفع إلى مزيد من التردي، ومن ثمّ الاستياء الشعبي. وليس مستبعداً أن يتفاقم نزاع الأجنحة بين «المعتدل» روحاني، المتضرر من إلغاء الاتفاق النووي، ومتطرفي «الحرس الثوري» الذين يرسملون على هذا الإلغاء، أيديولوجيّاً كما على جبهة الفساد والتفلت من كل رقابة. على هذه الخلفية جاءت كلمة مايك بومبيو مؤخراً لتنذر طهران بـ«أقسى عقوبات في التاريخ»، وتطالبها بالانسحاب من سوريا وباقي الشرق الأوسط. وبغض النظر عن أي رأي في الموقف الأخير هذا، يبقى أن النظام الإيراني لم يعد أبداً في وضع يُحسد عليه. *محلل سياسي- لندن