خلال العشرية السوداء الدموية في الجزائر، كانت مساحة الخوف تتَّسِع لدينا كلّما حلَّ شهر رمضان الفضيل، ذلك لأن الجماعات الإرهابية تكثف من عمليات القتل، معتبرة ذلك جهاداً ضد النظام الجزائري، الذي كانت تعتبره طاغوتاً، وضد الشعب كله في وقت لاحق كونه من عبدة الطاغوت، أو على الأقل مؤيد له، وفي أضعف الحالات مستسلم وخاضع، وبالتالي لابد من ترهيبه حتى يعود إلى الرشد، ويسلم من جديد على يد تلك الجماعات الضالة، وقد انتفت تلك الظاهرة بعد القضاء على الإرهاب من طرف الجيش. اليوم، يعود الخوف في الجزائر بعد الفاجعة- التي وقعت يوم الاثنين الماضي -21 مايو الجاري- في مصلى «خالد ابن الوليد» ببلدية «وادي السبع» ولاية سيدي بلعباس غرب الجزائر، حيث قامت مجموعة إرهابية مجهولة العدد والهوية باغتيال المؤذن المتطوع هناك ونائبه ذبحاً باستعمال السواطير، وذلك قبيل دقائق فقط من موعد أذان الفجر، ومع أن الحادثة على هذا النحو تعد فرديّة منذ القضاء شبه الكلي على الإرهاب، إلا أنها تكشف على أن ثقافة الإرهاب لا تزال قائمة لدى الجماعات الإرهابية، وأنها ليست في عداء مع البشر(المؤمنين) فقط، ولكنها في خصومة مع الدين، من خلال ترهيب المصلين. الواقع، أن الإرهاب المنتشر في دولنا اليوم، هو نتاج ثقافة متراكمة لتاريخ طويل، مبعثه بالأساس طبيعة الحكم والصراع بخلفيّة طبقية حول توزيع الثروة، وموقع الفقراء في أي ترتيب اجتماعي. كما يحاول الإرهاب اليوم تبرير وجوده، وطارحاً لتسويقه النظري، وساعياً لملاذه الآمن، عبر التفسيرات والأفهام المتعددة للدّين كله وللقرآن بوجه، تلك التفسيرات، بنت القرون الخوالي، الرافضة للتنوع والاجتهاد، والمحتمية بفكر يخدم المواقف السياسية للأقوى في المراحل المختلفة من تاريخنا، وليس شرطاً أن يكون القائمون بالعمليات الإجرامية في الجزائر وغيرها جماعات دينية، ولكنها المؤكد في كل الحالات أنها نتاج زماننا، الذي تتحرك في فضائه بقوة الجماعات الدينية، معبدة الطرق لأصحاب الأفكار المتطرفة من كل الاتجاهات. ومع أنني لست من المتحمسين كثيراً، لقياس الشاهد عن الغائب، أو تحميل الأقدمين ما نحن فيه اليوم، حتى لو تعلق الأمر باجتهادهم الديني والسياسي، انطلاقاً من أنهم أمة خلت لها ما كسبت ولنا ما كسبنا، إلا أن الضرورة تتطلب إعادة طرح أحداث وقعت في تاريخنا منذ القرن الهجري الأول، تكشف على أن ضيق الأفق في الرأي يؤدي بالضرورة إلى الإرهاب، ومنها حادثة الجعد بن درهم، الذي رأى مخالفوه من علماء عصره أنه:«بالغ في توحيد الله وتنزيهه، حيث كان ينفي أن يكون الله كلم موسى تكليماً، وأن يكون قد اتَّخذ إبراهيم خليلاً»، فطلبه بنو أمية، فهرب إلى الكوفة، وفيها نشر تعاليمه، وحين تسلم الحكم في دمشق هشام بن عبد الملك، عيّن خالد بن عبد الله القسري والياً على الكوفة، فقبض على ابن درهم، وفي أول يوم من أيام عيد الأضحى من ذلك العام، قال خالد وهو يخطب خطبة العيد:«أيها الناس ضحُّوا تقبَّل الله ضحاياكم، فإني مضحٍّ بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتَّخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً»، ثم نزل فذبحه تحت المنبر.. المؤذنان اللذان ذُبِحا في الجزائر قبل صلاة الصبح، لا علاقة لهما بفكر بن درهم، وهما أميان، لكنهما ضحية الفكر المتطرف، ما يعني أن محاربة الإرهاب في أوطاننا تبدأ من الفكر، وأول من عليه القبول بالاختلاف في الرأي، والتنوع في الفكر، والتعدد في المواقف، هم صناع القرار في عالمنا.