نعم، جاء الآن دورك يا فلسطين، يا وطن الحب والكبرياء، في مواجهة الحرائق الآثمة.. فكونك تجسدين عَبق التاريخ، وأحد منتجي القداسة الكونية، إنما هو أمر لم يحتمله غرماؤك الألداء. وبذلك، تكون الدائرة العربية قد فُتحت على مصراعيها. والشيء المثير في ذلك يتمثل في أن العالم العربي يكاد يكون جميعه قد اخترق، وقد دخل في مأساة ملهاة تأخذ الأنفاس. فحتى بعد أن قبل الفلسطينيون قسمة وطنهم مع الإسرائيليين إلى دولتين، إسرائيلية وفلسطينية، فإن الإسرائيليين لا يقبلون بالقسمة مع صاحب الأرض! إن مطامع الإسرائيليين مفتوحة على فلسطين كلها، وحين يتصل الأمر بهذا الشق من المسألة، يتضح أنه ليست إسرائيل الصهيونية وحدها هي من يريد أن تكون له الكلمة الفصل في مصير الإنسان الفلسطيني، وإنما كذلك سيد النظام العالمي الذي بدا شريكاً في ملكية فلسطين! وتجسد ذلك في الخطوة الاستفزازية الأخيرة متمثلة في نقل السفارة الأميركية إلى القدس، وكأن الأمور مرتبطة بقرار أميركي أولاً، وكأن القدس لا أهل شرعيين لها ثانياً. ويعني ذلك بوضوح أن الفريقين الأميركي والإسرائيلي كليهما لا يعترفان بالتاريخ العالمي ولا بالتاريخ العربي الوسيط، وهذا أمر يمس المسيحيين بقدر ما يمس المسلمين، ما يعني انتماءهما إلى تحريف التاريخ المرتبط الآن بالعولمة، أي القول بأنه ليس هناك شعوب ولا أوطان ولا قيم إنسانية نبيلة أنتجها بشر تاريخ إنساني مجيد، وإنما «ما يُطبخ» بدلاً عن ذلك! ما يؤسس له الخيار الأميركي الإسرائيلي في فلسطين، هو عالم زائف من القيم القائمة على الاستهتار بالشعوب وبقيم التقدم والحرية والعدالة والكرامة.. أي بالصيغة التي تنظر إلى الإنسان كأثمن رأسمال في العالم. فالأفكار إياها هي التي يلتئم البشر حولها لإنتاج عالم يرى أصحابه في سعادة البشرية وحريتها وعدالتها وتطورها أساس التاريخ وقاعدته. ماذا لو احتلت إسرائيل فلسطين وألقت بالشعب الفلسطيني في غياهب الظلم والظلام، وهي تفعل ذلك منذ سبعين عاماً، وتصر على مواصلته؟ إنها واحدة من أقسى الجرائم التاريخية، تحدث على مرأى ومسمع من المجتمع الدولي ومؤسساته. إن الصراع الفلسطيني الصهيوني دلل على أخطر حُكم يُتخذ ضد التاريخ البشري، وهو أن فلسطين التي تعاني من الاحتلال الصهيوني، وجدت مَن يكرس هذا الاحتلال باسم دولة عظمى. فبدلاً من ممارسة دور قانوني عادل من قبل الولايات المتحدة، نجد أن هيمنة القوى العالمية الكبرى في المنظومات القانونية الدولية تلعب دوراً خطيراً ليس في تجميد القانون الدولي فحسب، وإنما كذلك في إرجاع البشرية إلى عصور ما قبل «الإنسان العاقل». وحينذاك يصبح طرد الفلسطينيين من وطنهم وإحلال آخرين مكانهم، سياسة معقولة بل عادلة! لقد أخذ الأمر طابعاً وحشياً، حين كرّست إسرائيل بموافقة الدولة العظمى.. عملية سحق الفلسطينيين على أيدي الجيش النازي الجديد (الإسرائيلي). إن خللاً هائلاً يهيمن في العالم وعليه، ليدفع بالسؤال: هل تمثل إسرائيل قوة فوق القانون الدولي؟ لقد لاحظنا أن الأمم المتحدة وافقت على إرسال فريق للتحقيق في مجزرة غزة.. لكن ماذا بعد؟ لقد قامت طائرات ومدافع إسرائيلية بقصف الشعب الفلسطيني، أطفالاً ونساء ورجالاً، فهل هؤلاء يمثلون كائنات غير بشرية؟ إنه من العار أن يحدث ذلك في عالم متحضر؟ إن معركة فلسطين مطالبة اليوم بالإجابة الواضحة عن سؤال مركزي: هل اختُزل العالم في شخصين يعودان به إلى عصر ما قبل «الإنسان العاقل»؟! وأياً تكن الإجابة، فالآن جاء دورك يا فلسطين!