هل العبقري نصف مجنون أحياناً.. أم المجنون شبه عبقري؟ ولماذا تربط الثقافة السائدة المجنون والعبقري عكسياً، وتجعلنا ننظر لبعض الذكاء الحاد وكأنه فلتان عقل، كلما جاء العبقري بفكرة غريبة أو استجاب لأي تحد بشكل غير متوقع؟ وكيف أن العبقرية التي ينبغي أن تكون قمة انتظامك خلايا المخ وأوج أداء الدماغ لوظائفه وأعلى درجات تصافي المادة والفكر أو «المادة» و«الوعي»، كما يقول الفلاسفة، أساساً في الواقع للجنون، ومنصة للقفز إلى اللا معقول الذي يعد من تخبط العقل وتداخل وظائف المخ وأوج اضطراب الشخصية؟ وقد اشتقت «العبقرية» كما قرأنا مراراً من «عبقر»، «وهو موضع بالبادية كثير الجن، يقال في المثل: كأنهم جن عبقر، ثم نسبوا إليه كل شيء تعجبوا من جودة صفته، يقال ثياب عبقرية»، وهو ما جاء في قاموس لسان العرب. فالجن هم الذين يلهمون بعض البشر الذكاء الخارق، وهم كذلك، أي الجن، سبب الجنون! هل مصدر العبقرية والجنون في ثقافتنا.. واحد؟! وهل عرفنا على وجه الدقة ما العقل كي نفهم ما الجنون؟ ألا نقرأ ونسمع ونشاهد، أن بحوث الدماغ لم تبدأ في التغلغل إلا خلال آخر عقدين أو ثلاثة، فهل هذه الفترة كافية للتمييز بين الناضج والفج، والخارق والبليد؟ قرأت ذات مرة ساخرة لأحد الأميركيين يقول فيه إن «الجنون» أحد الأسباب التي تجيز الطلاق في بعض الولايات.. والزواج في بقية الولايات! فأنظر المفارقة المضحكة! اشتهر في الثقافة العربية المعاصرة من فلاسفة الألمان كثيرون أبرزهم «شوبنها ور Schopenhauer 1860 - 1788» و«نيتشة» Nietzche 1900 - 1844. وشوبنهاور فيلسوف التشاؤم، وصاحب المقارنات بين العقول العادية والعبقرية، بينما نيتشة فيلسوف تمجيد القوة والسوبرمان ومعاداة الخور والضعف، رغم أنه اتهم في النهاية بالجنون الذي قيل إنه أصابه بتأثير مضاعفات مرض الزهري الجنسي الذي كان الألمان يسمونه المرض الفرنسي والفرنسيون المرض الألماني.. ولا أدري ما اسمه اليوم في ظل الاتحاد الأوروبي! ميشيو كاكو Michio Kaku عالم فضاء وفيزياء أميركي من أصول يابانية، قام السوري «سعد الدين خرفان»، ضمن سلسلة عالم المعرفة الكويتية، بترجمة كتابه «مستقبل العقل The Future Of Mind في أبريل 2017 الحالي. ويقارن في المقدمة بين العقل والكون باعتبارهما أعظم سرين من أسرار الطبيعة، حيث تمكنا من تصوير أبعد المجرات والتصرف، بالجينات التي تتحكم بالحياة، بل وتفحص المسار الداخلي للذرة.. ويقول «لكن العقل والكون ما زالا يفلتان منا وما زالا يثيران دهشتنا، إنهما الجبهتان الأكثر غموضاً وإثارة في العالم. هناك 100 مليار نجم مجرة في درب التبانة، وهذا هو تقريباً عدد العصبونات في دماغنا. ربما عليك أن تسافر 24 تريليون ميل، والتريليون ألف بليون، إلى أول نجم خارج منظومتنا الشمسية، للعثور على جسم له التعقيد نفسه لهذا الذي يقبع فوق كتفيك». «ص 13 - 14». هل يمكن بأي وسيلة، التحكم بالعقل؟ يروي «كاكو» في كتابه قصة الثور الهائج الذي أطلق له العنان في ساحة قرطبة الفارغة بإسبانيا، بعد أن رُبي لأجيال عدة بعناية من أجل تعظيم غريزة القتل لديه. ثم يدخل البروفيسور بجامعة «يل» yale، «د. خوسيه ديلفادو» الحلبة نفسها بهدوء متحدياً شراسة الثور، وفجأة يهجم الثور باهتياج من دون أن يفر الدكتور خائفاً، فهو يمسك بصندوق صغير في يده، ثم أمام آلات التصوير يكبس زراً في الصندوق، فيتوقف الثور فجأة في مساره! ويقول كاكو: «كان البروفيسور واثقاً جداً بنفسه بحيث إنه خاطر بحياته ليثبت هذه الفكرة، وهي أنه أتقن فن التحكم في عقل ثور هائج». «ص 221». طور د. ديلغادو بحوثه، وأجرى سلسلة من التجارب الأخرى على القرود لمعرفة ما إذا كان يستطيع إعادة ترتيب تركيبتها الاجتماعية بكبسة زر. بدأت الذكور الأدنى تفرض نفسها، وتستولي على المكان والامتيازات التي كانت تخصص عادة للذكر الأعلى. وفي عام 1969 ألف كتاباً بعنوان «التحكم الفيزيائي في العقل: نحو مجتمع متحضر نفسانياً». ويقول «كاكو» إن الكتاب أثار السؤال المقلق: إذا كان علماء كالدكتور «ديلغادو» هم الذين يشدون الخيوط، فمن الذي يتحكم فيمن يشد الخيوط؟ وأي نظام ديكتاتوري رهيب قد يتأسس على مثل هذه البحوث؟ وهيأت ظروف الحرب الباردة بين أميركا وروسيا المجال واسعاً لتجارب التحكم في العقل فيما وراء العبقرية والجنون، ما أدى إلى اعتقاد الاستخبارات الأميركية، أن السوفييت متفوقون جداً في علم غسل الدماغ، والدخول في مشاريع سرية مثل مشروع ريتشارد هولمز MKULTRA عام 1953، الذي مَوَّل قبل فضيحة ووترجيت عام 1973 ثمانين مؤسسة، بما فيها 44 جامعة وكلية وعدد من المستشفيات وشركات صناعة الأدوية والسجون، أجرت تجاربها غالباً على أشخاص لا يعرفون الأمر، ومن دون إذنهم، في 150 عملية سرية. وقد شمل بعض أجزاء هذا المشروع «تطوير مصل الحقيقة» كي يكشف السجناء عن أسرارهم، خطوات لـ «محو الذاكرة»، استخدام التنويم المغناطيسي، إتقان طرق استجواب ضد السجناء، تغيير الشخصية لجعلها «أكثر مرونة». ولم تنجح هذه المحاولات رغم إنفاق الملايين عليها وتحمس بعض العلماء لها فمضوا فيها بإرادتهم مؤمنين بما سمي لاحقاً بـ «المشاريع السوداء»، ويقول د. «كاكو» إن هذه المشاريع ظلت نظرية، «ولم تصدر عنها قطعة واحدة من علم يوثق به، وقد فشل البنتاغون في تحقيق الهدف الرئيس: التحكم في العقل الواعي لشخص آخر». ولم تحقق حتى عمليات غسل الدماغ تأثيراً بعيد المدى، حيث يقول عالم النفس «روبرت جي ليفتون»: «كان لغسل الدماغ من قبل الشيوعيين تأثير ضئيل على المدى البعيد، وعاد معظم الجنود الأميركيين الذين أدانوا الولايات المتحدة خلال الحرب الكورية إلى شخصياتهم العادية بعد وقت قصير من إطلاق سراحهم، لذا يبدو أن شخصية الإنسان الأساسية لا تتأثر على المدى البعيد بغسيل الدماغ». «ص 226». ولكن ماذا قال الفلاسفة وبخاصة شوبنهور، عن علاقة العبقرية بالجنون؟ أبدى في الواقع ملاحظات سنراها جديرة بالنظر!