العرب، أهم ما يعانون منه، خروج بعضهم على بعض عند اتخاذ القرارات المصيرية رغم وضوحها وأهميتها. أمر كهذا محزن ومؤلم ويدعو إلى وقفة تدارس، فما كان مصيرياً وواضحاً من المتوقع ألا يُختلف عليه اثنان، بل حتى وإن كان القرار يحتاج إلى شيء من التجليس أو التعديل، إضافةً أو حذفاً، فإن المسؤولية الوطنية أو القومية أو سمِّها ما شئت، تقتضي ألا تُثار مثل هذه التحفظات حتى وإن امتلكت نسبة مرتفعة من المشروعية، والسبب هو الحفاظ على وحدة الصف والاصطفاف في زمن كل ما فيه ملَّغم وتصعب قراءته، فأن تكون مع الجماعة العربية لدرء المخاطر والوقوف في وجه التحديات بثقة أكبر، خيرٌ ألف مرة من التمظهر بتسجيل موقف مخالف أو معاكس لإرادة شعب أو كامل الأمة. وليس المقصود هنا بالوقوف مع الشعوب أو الأمة أن يكون بالمعنى القطيعي شبيه بـ(مع الخيل يا شقرا) كما تقول عرب البادية، إنما بالمعنى الأسمى، أي أن ترتقي على تحفظك وتبديه لاحقاً في وقت أنسب. السنوات السابقة التي شهدنا فيها قرارات مصيرية عربية، كانت حافلة بمثل هذه (الخروجات)، ويبدو أنها ستتجدد في السنوات المقبلات لا سمح الله. مناسبة هذا الكلام، قراءة في عمليتي انتخاب عربيتين جرتا في لبنان والعراق، وما آلت إليهما في اليوم التالي على انتهائهما مباشرة، تضعنا أمام نقاط عديدة ومهمة، أولى هذه النقاط، أن الديمقراطية على الطريقة العربية لا تشبه من حيث الآلية والنتائج، الديمقراطية الغربية. ويبدو أنها لا يمكن أن تكون في المستقبل القريب، ثانيها، أن ما تعنيه الديمقراطية العربية، ليس بالضرورة أن يكون مطابقاً لما عنته وتعنيه الديمقراطية الغربية لا كمفهوم ولا كوسيلة حكم في المجتمعات البشرية المتحضّرة، ثالثها، أن ما تسعى إلى ضبطه العملية الديمقراطية في الدولة المدنية الغربية، في بريطانيا والهند كمثال، هو بعيد كل البعد عما يمكن أن تسعى إلى ضبطه الديمقراطية المتحققة لدى العرب إلى حد الآن. الديمقراطية العربية التي سبق إجراؤها، بما في ذلك لبنان والعراق مؤخراً، وبناء على آلياتها المستخدمة ونتائجها المعلنة، وما جرى قبلهما وبعدهما وأثنائهما من أحداث وتجاوزات كان للمال السياسي دور كبير فيها، تؤشر بوضوح على حقائق مرة، من بينها أنها جاءت لتعزز أولاً، الفساد وتعيد إنتاجه تحت مسميات وأشكال جديدة قائمة على المحاصصة الطائفية، تحديداً في العراق، ولعل هذا ما أدركه الشعب العراقي التواق إلى الخروج من دائرة الاحتقان والاختناق والثقافة القبورية التي وضع فيها على مدى سنوات ثقيلة وطويلة، ما جعله يلجأ إلى استخدام العزوف الانتخابي (المشاركون 44?) كشكل دستوري من أشكال الانتقام مما يحدث أمامه رغماً عن إرادته وإهمالاً لتطلعاته في الحياة الكريمة، ثانياً، جاءت هذه الانتخابات - بمناخاتها المتوترة - لتكرّس الإقطاع السياسي الذي ما انفكَ يُجدد قبضته على كل شيء، تحديداً في لبنان، رغم أن محاولات شعبه المستمرة، الفكاك منه والقضاء عليه بوجوه جديدة ونزيهة تضمن له الخروج الآمن إلى فضاءات الحرية ليحقق لنفسه الأمن والاستقرار والازدهار الاقتصادي الذي عرف به على مدى عقود، والانفتاح على محيطه العربي والعالمي بمحمولاته الحضارية والثقافية الحيّة التي تميّزه، وذلك عبر التخلص من رموز الفساد المالي والإداري ومجذري الطائفية البغيضة، ورياحها المسمومة التي ما أن تهب على مجتمع إلاَّ وجعلته ذابلاً يائساً ينحو أفراده إلى الكراهية والتباغض والجريمة. مخرجات السياسة اللبنانية والعراقية ستنعكس مفاعيلها يوماً على إجماع الأمة - وإن لم نتوقع إجماعاً إلاَّ في حدوده الدنيا - فلا يستغربن أحد ذلك، كون مواقف الغد حددتها سلفاً انتخابات اليوم التي جاءت - بلسان إعلام الدولتين الشقيقتين - خارجة على جوانب دستورية ورغماً عن إرادة الأكثرية وتطلعاتها المشروعة.