لا حديث اليوم في دوائر القرار والصالونات والتحاليل الإعلامية في أوروبا إلا عن تداعيات الخروج الأميركي من الاتفاق النووي مع إيران وتأثيراته على اقتصاديات تلكم الدول، ولما اجتمعنا مؤخراً في الرياض في إطار اتحاد عاصفة الفكر، طلبت مني الأمانة العامة للاتحاد إعطاء تصور عن السيناريوهات لإمكانية مواجهة التدخل الإيراني في المنطقة العربية.. فقلت إن ذلك لا يمكن أن يتم بمعزل عن تشخيص النظام الإيراني، وقلت إذا فهمنا لنوعية النظام بدقة وفهمنا للسياسة الداخلية والخارجية للبلد، وفهمنا للمشاكل التي تعاني منها دول مثل العراق واليمن ولبنان وسوريا والمنطقة بأكملها، وفهمنا لمحدودية الاتفاق النووي، وفهمنا لحقيقة أن النظام الإيراني لا يمكن أن يتعظ ولو وقعت مئات الاتفاقيات الدولية معه.. آنذاك يمكن تصور استراتيجيات احتوائية حياله. فـ«تصدير الثورة» عند القادة في إيران مسألة وجود لا يجب أن تتوقف في بلد معين بل هي عالمية وتتيح لهم كل الطرق والمناورات والخطط التي تقوض الدول والمؤسسات وتنشئ الميليشيات والجماعات المسلحة، و«التقية» مسألة تبيح لهم الظهور بوجه والقيام بشيء آخر، فالاتفاق النووي أيديولوجياً هو من باب التقية الذي تتبعه إيران لإسكات المجتمع الدولي وتحقيق مصالحها بأمان، خاصة أن الاتفاق لا يعطي أي ضمانات لفترة ما بعد انتهاء صلاحيته عام 2025 كما لا يحمل أي ضمانات إقليمية ولا يسطر أي بنود تمنع إيران من التوغل بميليشياتها في المنطقة، والدليل على ذلك أنه ورغم مرور ثلاث سنوات على الاتفاقية استمر الإيرانيون في تغذية كل الصراعات في العراق واليمن ولبنان وسوريا، بل ويحاولون تدريب ما يسمون بالبولسياريو وتسليحهم لزرع الفتنة في المغرب، وهو ما جعل المملكة تقطع علاقاتها بإيران. من أهم بنود الاتفاق نجد «أن العقوبات التي تفرضها الأمم المتحدة على الأسلحة ستبقى خلال خمس سنوات، لكن يمكن لمجلس الأمن الدولي أن يمنح بعض الاستثناءات. وتبقى أي تجارة مرتبطة بصواريخ باليستية يمكن شحنها برؤوس نووية محظورة لفترة غير محددة»، و«رفع كل العقوبات الأميركية والأوروبية ذات الصلة بالبرنامج النووي الإيراني، والتي تستهدف القطاعات المالية والطاقة، خاصة الغاز والنفط والنقل». هذان البندان من أهم البنود التي غاظت الرئيس الأميركي حيث يراهما مع باقي البنود سيئان للغاية، وقد صرح ترامب أكثر من مرة في خرجاته الإعلامية وفي لقاءاته مع القادة الأوروبيين بأن هذا الاتفاق وفر أموالاً طائلة لإيران فاقت المئة مليار دولار وهي اليوم تستخدمها في تمويل الإرهاب. ستتأثر شركات ودول بسبب القرار الأميركي، خاصة الأوروبية منها، لأنها مضطرة للخروج من السوق الإيرانية، وأهمها شركات «ايرباص» و«توتال» و«بيجو» و«فولكسفاغن».. والتي سارعت بالدخول إلى السوق الإيرانية بعد توقيع الاتفاق النووي عام 2015. فشركة صناعة الطيران الأوروبية «ايرباص» مثلا من أكبر الخاسرين من فرض هذه العقوبات، فقد أعلنت من قبل عن عقود مع ناقلين إيرانيين، هما «إيران إيرتور» و«طيران زاغروس»، لبيع مئة طائرة في المجمل في صفقة تقدر قيمتها بنحو عشرة مليارات دولار. كما أنها لا تستطيع التأثير على القرار الأميركي لأن لها مصالح في الولايات المتحدة مما قد يعرضها لعقوبات وأضرار لا تحمد عقباها، نفس المصير ينتظر شركة النفط الفرنسية العملاقة «توتال»، التي تواجه خطر خسارة عقود بقيمة خمسة مليارات دولار للمساعدة في تطوير حقل غاز بارس الجنوبي. ولا ننسى شركات تشتغل في قطاع السفر والسياحة كشركتي طيران «بريتيش إيرويز» و«لوفتهانزا» وسلسلة فنادق «أكور» الفرنسية التي ستعاني إما من سندان الخروج من إيران أو من مطرقة العقوبات الأميركية التي ستطالها بحكم تواجد استثماراتها الضخمة في أميركا. لا أظن أن دبلوماسية رؤساء فرنسا وألمانيا وبريطانيا ولا حرفية رجال أعمال واقتصاديي ومصرفيي تلك الدول.. ستنجح في الإبقاء على امتيازات تلكم الشركات في إيران، فقد رحل إلى أميركا الرئيس الفرنسي والمستشارة الألمانية لإقناع الرئيس ترامب، ولكنهم رجعا بخفي حنين، ناهيك عن أن شركات أميركية بدورها ستفقد عائدات كبيرة كشركة بوينغ التي ستفقد لوحدها 15 مليار دولار، والمؤكد أن الرئيس الأميركي سيكون حازماً مع الشركات الأميركية والأوروبية وغيرها على السواء.