أفكار كبيرة عدة أخذنا نسمعها مؤخراً. فبعد سنوات من الصراع حول بضع نقاط مئوية في معدل الضريبة الهامشي الأعلى، أخذ بعض الزعماء يناقشون تغييرات شاملة في السياسة الاقتصادية. ومن بين هذه الأفكار هناك فكرة "دخل أساسي عام"، أي منح كل مواطن راشد راتباً سنوياً. وهناك أيضاً "ضمانة العمل" أو "الضمان الوظيفي"، الذي بموجبه تقوم الحكومة بتوفير عمل لكل من يريده. وهناك أفكار أخرى مثل "صندوق ثروة اجتماعي" – الذي بموجبه تقوم الحكومة بتسيير الاستثمارات باسم المواطنين - لم تنتشر بعد ولكنها باتت تناقش حالياً في دوائر المثقفين. وهذه كلها تضاف إلى الأفكار الكبيرة الموجودة مثل نظام الرعاية الصحية ذي الدافع الوحيد. غير أن أي واحد من هذه البرامج سيأتي بسعر مرتفع جداً. وعلى سبيل المثال، فإن دخلاً أساسيا قدره 10 آلاف دولار سنوياً، يُدفع لكل واحد من السكان الراشدين، البالغ تعدادهم 245 مليون نسمة، سيكلِّف نحو 2.45 تريليون دولار سنوياً. وتوفير وظائف لـ10 في المئة من السكان، براتب يبلغ 25 ألف دولار، سيكلِّف أكثر من 750 مليار دولار سنوياً. أما التقديرات بالنسبة لنظام الرعاية الصحية ذي الدافع الوحيد، فإنها بتريليونات الدولارات سنوياً. كما أن تمويل صندوق ثروة اجتماعي سيتم من خلال عائدات الضرائب. هذه أرقام كبيرة؛ والحال أن العائدات الفيدرالية الحالية تبلغ نحو 3.2 تريليون دولار فقط. وتطبيق كل الأفكار الكبيرة دفعة واحدة سيكلف أكثر من ضعف هذا الرقم. ثم إنه حتى إذا لم تقلِّص البرامجُ الحكومية الناتجَ المحلي الخام عبر مزاحمة نشاط القطاع الخاص وإزاحته، فإن الأمر سيتطلب زيادة دراماتيكية في الضرائب من أجل تمويل الإنفاق الإضافي. والولايات المتحدة لم تشهد مثل هذا التوسيع الكبير للحكومة منذ الحرب العالمية الثانية. ولا شك في أن زيادة الضرائب من أجل تغطية هذا الحجم من الإنفاق ستكون مهمة صعبة للغاية. فعلى الرغم من تغييرات كبيرة في معدلات الضريبة الهامشية الأعلى – من 91 في المئة في 1945 إلى 31 في المئة في 1991، ثم 39.6 في المئة في 2013 – إلا أن عائدات الضرائب ظلت ثابتة جداً كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. ثم إن زيادة معدلات الضرائب أمر سهل؛ ولكن الحصول على أموال أكثر في الواقع صعب، وذلك نظراً لأن الأغنياء يجدون دائماً طرقاً لتجنب الضرائب. وبالطبع، هناك أيضاً الإمكانية المتمثلة في أن الولايات المتحدة لن تحتاج للحصول على المال. فهناك من يرى أن العجز لا يهم - أنه لما كانت الولايات المتحدة دولة ذات سيادة وتستطيع طبع عملتها، فإنها تستطيع دائماً تمويل أي "إنفاق بالعجز" عبر خفض معدلات الفائدة إلى الصفر ثم جعل البنك المركزي يشتري سندات حكومية. وطالما أن التضخم لم يحدث على أرض الواقع، مثلما يرى أصحاب هذا الرأي، فإن العجز ليس بمشكلة. في دوائر المثقفين، يقتصر هذا الرأي عموماً على شريحة صغيرة من اليسار؛ ولكن في العقود الأخيرة، أخذ سياسيون "جمهوريون" يتصرفون على نحو يوحي بأنهم يؤمنون بهذه النظرية أيضا. غير أن الراجح على ما يبدو هو أن العجز يخضع للقيود السياسية، حتى تحت الإدارات "الجمهورية" – ذلك أن الديْن الحكومي يخيف الناس، بغض النظر عما إن كان ينبغي أن يخيفهم أم لا. وبالنظر إلى القيود على الإنفاق بالعجز، وخلق عائدات ضرائب، فإن الأفكار الاقتصادية الجديدة الكبيرة تبدو في حالة تعارض وتضارب. ذلك أن مالاً أكثر من أجل دخل أساسي يعني مالاً أقل من أجل برنامج وظائف حكومي، والعكس صحيح. ولهذا السبب، فإن أنصار المبادرات المختلفة، خاصة "الدخل الأساسي العام" و"الضمان الوظيفي"، يميلون عموماً إلى التصارع كثيراً، خاصة على الإنترنت. ولكن هذه المعارك تأتي بنتائج عكسية، لعدة أسباب. فأولًا، من الجيد اقتراح كل هذه الأفكار الكبيرة، حتى وإن كان سعرها الإجمالي سيثير الصدمة. كما أن تقديم كل الاقتراحات دفعة واحدة يعزّز فكرة أن شيئاً كبيراً ينبغي القيام به من أجل تخفيف مشكلة ركود الأجور، وتفاقم التفاوت الاجتماعي في الولايات المتحدة.. ثانياً، إن معظم هذه الأفكار يمكن تطبيقها على نطاق صغير قبل أن يتم توسيعها وتعميمها في حال أثبتت نجاحها. فالدخل الأساسي العام يمكن أن يكون صغيراً في البداية - ألف أو ألفي دولار فقط للشخص؛ ولكن الدلائل تشير إلى أن هذا المستوى من الدخل الأساسي لا يثني الناس عن العمل؛ وبالتالي، فإن من الأمان تجريبه على صعيد البلاد. . وعليه، فلا شك في أنه من الجيد الحصول على أفكار ومقترحات كثيرة، ثم تجريبها على نطاق صغير، قبل تعميمها في حال أثبتت نجاحها. *أستاذ سابق بجامعة ستوني بروك في نيويورك ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبرج نيوز سيرفس "