يمثل مصطلح «رجل أوروبا المريض» واحداً من أشهر الاستعارات التي تم صكها في الزمن الحديث لمقاربة الدولة بالجسد البشري، حين يعتل بعد طول صحة وفتوة. فالمصطلح أطلق على الإمبراطورية العثمانية منذ منتصف القرن التاسع عشر بعد توالي هزائمها وانكساراتها، وفقدانها الكثير من الأرض التي كانت تستولي عليها، وتحولها إلى عبء سقيم على الشرق. وكما يفقد الرجل التي أقعده المرض هيبته فقدت هذه الإمبراطورية هيبتها، فأخذت دول أوروبا تخطط للاستيلاء على الأرض التي كانت بحوزة العثمانيين والممتدة في قارات ثلاث، وهو ما تحقق لها بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، حيث لم يبق للرجل المريض من جسده فارع الطول، عريض المنكبين، سوى بعض عظم ولحم أنقذه مصطفى كمال أتاتورك صانع تركيا الحديثة. كان أول من أطلق المصطلح هو قيصر روسيا نيكولاي الأول سنة 1853م، لكنه لم يلبث أن شاع في أرجاء أوروبا، ومنها إلى سائر الأرض، ليشهد الناس قصة تحلل جسد هذا الرجل المجازي، عبر قرون طويلة امتدت من نهايات القرن السابع عشر، حيث بدأ الضعف يتسرب إلى جسد الإمبراطورية المرعبة، وتولى أمرها سلاطين ضعاف، افتقدوا طموح أسلافهم وجلدهم، وتركوا أمر الحكم إلى رجال دولة فاسدين، وعسكر الانكشارية المتجبرين على الرعية، لتحل ببني عثمان هزيمة منكرة خلال الحرب التركية العظمى، وتضطر إلى توقيع معاهدة كارلوفجة التي تخلت فيها عن أجزاء كبيرة من أراضيها لحساب الأوروبيين، فانفتحت الأبواب على مصاريعها لظهور مصطلح مجازي آخر هو «المسألة الشرقية»، والذي حمل في ركابه تكالب دول أوروبا على اقتسام ممتلكات الإمبراطورية العثمانية. واستعارة الجسد على هذا النحو في حالة سياسية لم يكن بعيداً في حقيقة الأمر عن الصور النمطية التي كرسها الغرب عن الأتراك بوجه عام، ومنها «التركي الشهواني» و«التركي المرعب»، فالشهوانية حالة جسدية فائرة شاعت عن العثمانيين في أوروبا خلال القرن التاسع عشر وما تلاه، وانداحت في أعمال أدبية، بعضها صور السلطان على أنه رجل كهل، تعب من المغامرات الغرامية في الحرملك المزدحم بالجواري، ويريد أن يستعيد فحولته بأي شكل، لكن هيهات. وبعضها صور البيوت غير النظيفة على أنها مصدر لأمراض فتاكة مثل الكوليرا والتيفود، التي تنهك الجسد ثم ترديه. أما الرعب فمرتبط بعنف الأجساد في ميدان القتال، ووقت تحصيل الأتاوات، وفض أي شغب للرعية، والتعذيب القاسي في غياهب السجون، وتلك الفظاظة في الحديث والتصرف. وحين أراد مصطفى كمال أتاتورك تغيير الصور النمطية السلبية عن الأتراك في المخيلة الأوروبية بدأ بشيء له علاقة بالجسد، إنه الزي الذي كان على الأتراك أن يرتدوه ليظهروا في عيون الأوروبيين أنهم صاروا «شعباً متمدناً»، وهو ما خاطب به أهل بلده قائلا: «إن الشعب التركي الذي أسس الجمهورية التركية متمدن، فهم متمدنون في التاريخ وفي الواقع، ولكني أقول لكم.. على شعب جمهورية تركيا، الذي يدعي أنه متمدن أن يثبت أنه متمدن، وذلك في أفكارهم وعقليتهم وحياتهم الأسرية، ونظام حياتهم.. عليهم أن يثبتوا في الواقع أنهم أشخاص متمدنون ومتقدمون في مظهرهم الخارجي أيضا. وسوف أصيغ تفسيري لكن في هيئة سؤال:"هل لباسنا قومي؟ صرخات: «لا»، «هل هو متمدن ودولي؟» صرخات «لا. لا»، «أتفق معكم في هذا الخليط المضحك من الأزياء، ليس بالقومي ولا الدولي، الثوب الدولي المتمدن جدير بأمتنا، ومناسب لها، وسوف نرتديه. حذاء لأقدامنا، بنطال لسوقنا، قميص ورابطة عنق، جاكيت وصدرية، وبالطبع إتماما لهذه جميعا غطاء له حافة لرؤوسنا. أريد أن أجعل هذا واضحا. هذا الغطاء للرأس يسمى القبعة». كأن أتاتورك أراد أن يقول للغرب إن جسد الرجل قد تغير بتغير ما يرتديه، وأن مرضه زال عنه، بدخوله زمنا آخر، لكن صورة تلك الاستعارة لم تفارق مخيلة الأتراك بتغير أزيائهم، فالرئيس رجب طيب أردوغان، الذي يرتدي زيا على المثال الذي وصفه أتاتورك، يظهر في خطابه دوما وجعه من هذا التشبيه التاريخي، وهو ما يتضح من قوله في خطاب أثناء خوض الجيش التركي لمعركة عفرين في شمال سوريا: «تركيا ليست الجسد الضعيف.. أقولها للعالم أجمع تركيا اليوم ليست هي دولة الرجل المريض كما كانت في السابق، تركيا اليوم مختلفة بشكل كامل وتمتلك إمكانات وقدرات وطاقات كبيرة.. شعبنا العظيم لبى النداء وصمد بصدره العاري أمام كافة الأسلحة». في الحقيقة لم يطلق مجاز «الرجل المريض» على الإمبراطورية العثمانية فحسب، بل لحقت بإمبراطورية تشبنج الصينية التي استمرت من 1644 إلى 1912، حين بدأت قوتها في التداعي مع حلول أواخر القرن التاسع عشر، لتتلقى هزائم على أيدي اليابانيين والغرب، وتقدم تنازلات جارحة عن أراضيها، وتنطلق الاستعارات المذلة للشعب الصيني بعمومه.