سبعة عقود من الصبر المر على شجرة الحصرم الإسرائيلي، يخرج الطفل الفلسطيني الذي ولد في العام 1948 أقوى من الجندي الإسرائيلي الذي يملك كما يقال أي سلاح فتّاك لا يملكه أحد من العالمين. سبعون عاماً على «يوم الأرض وأفيجادور يعلن على الملأ بأن قواعد الاشتباك مع الفلسطينيين لم تتغير، حتى لو تغير العالم من حولنا عشرات المرات منذ الإعلان المشؤوم عن زراعة جينة هجينة في فلسطين الأيقونة. استطاعت إسرائيل خلال تلك الفترة الزمنية المخيبة لآمال العرب والمسلمين، وكذلك اليهود والمسيحيين الذين لهم نصيب مذكور في ذاك المقدس من قدسية الله سبحانه، أن تحطِّم الكثير من الإرادات العربية والإسلامية والغربية والأميركية، ولكنها عجزت أن تكسر الإرادة الفلسطينية الشعبية التي ازدادت قوة إلى قوتها، رغم أن الأنظمة العربية بشكل عام قد أصابها الوهن والضعف من كل مكان. وبنظرة سريعة على الخارطة الجغرافية للعالم العربي، ندرك أن العرب أنفسهم انقسموا إلى «عربين» في موقفهم من القضية الفلسطينية، كأولى الأولويات، التي يرى من خلالها البعض أن سوريا اليوم ليست أقل قدسية من فلسطين، وكذلك ليبيا واليمن ولبنان والعراق، فكل دولة أشغلت بمقدساتها الداخلية، وحتى تنتهي من حل عقدتها الذاتية، ومن ثم تنتقل إلى تحرير القدس من ربقة إسرائيل لتضعها قلادة في عنقها، ولكن وقت تلك الدول لم يحن بعد. القضية الفلسطينية برمتها تحركت من المركز إلى الهامش بسبب مستجدات «الربيع العربي» الذي خلط الحابل بالنابل في الدول التي كانت فلسطين فيها فوق المساءلة وأعلى من الحسابات السياسية الضيقة. بعد سبعين عاماً على استحلال الحرمات وتدنيس المقدسات «العالمية» وليست العربية والإسلامية فقط، بل إن إسرائيل خلطت معادلة قواعد الاشتباك بمبادئ العيش المشترك في دولتين مستقلتين متوازنتين، تتبادلان المصالح كبقية خلق الله في العالم الأكبر. يوم الإعلان عن «دولة إسرائيل» اختلف أهل الحل والعقد من الفلسطينيين على المساحة وأصر البعض على كل فلسطين، ولم يصغ أحد إلى صوت العقل في تلك الجلسة الحاسمة والرضى بالنصف، ثم المطالبة بما تبقى مع مرور الزمن. وقبل «أوسلو»، وصلت المساحة التي يفترض أن تكون مشروع الدولة الفلسطينية إلى 13% من مساحة فلسطين التاريخية، وصفها أبو عمار رحمه الله، وهذا ما توصل إليه طوال سنوات النضال وأوصى الفلسطينيين من بعده أن يواصلوا في ما تبقى. وقف قطار السلام الفلسطيني الإسرائيلي على خلاف الواحد في المائة الذي دام حتى تجمدت المفاوضات وبحر جليد «أوسلو»، ولم تبن سكة أخرى للسلام، حتى نمى إلى علم العالم «صفقة القرن» التي يتم الإعلان عنها بين حين وآخر، ولكن بما يخالف كل ما ضحى به أهل فلسطين من المرابطين على ثغورها وحتى الذين استوطنوا داخل الحائط الإسرائيلي والسياج الذي حول حلم دولة فلسطين في خارطة الطريق إلى من يستطيع أن يمسك الهواء بيديه من ثم يثبته في قواعد خرسانة الحق الذي تاه في دهاليز السياسات التي لم تستقر على حال. كل السيناريوهات التي يفترض من خلالها أن تسلم إسرائيل مفتاح الحل إلى أصحابه الحقيقيين، لم تعد واردة حتى في النقاش العام للشأن الفلسطيني الذي يدفع به أن يكون فلسطينياً فلسطينياً، بل أيضاً فلسطين على وزن «حربين» فغزة منبوذة، والضفة مرفوضة من طرف المحتل، وأطراف أخرى تلعب في الوسط، لعبة لا تقيم من خلالها دولة ولا تبني للسلام المنشود مظلة. ينتصر في هذا الصراع السبعيني من يستطيع كسر الإدارة الإسرائيلية التي لا تدار ذاتياً، بل بدعم حميمي من الآخرين، لأن في صراع الإرادات ينطبق على الإسرائيليين (... تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى?...)، وفي الميدان (لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ...)، «سورة الحشر: الآية 14». فالصراع منذ الوهلة الأولى غير عادل بسبب عدم قبول إسرائيل لتغيير قواعد الاشتباك بين مقاتل مدجج بالسلاح المرهب، وأعزل عاري الصدر لا يخشى الرصاص. فالجندي الإسرائيلي يريد أن يعيش ألف سنة ولو قتل العالم أجمع في ظرف سنة، ولكن سنَّة الكون دائماً تمضي خلاف ذلك، ولكن أكثر الناس لا يدركون الحقائق. عند إسرائيل كل الممنوعات رغم أن العرب منذ اتفاقية 2002 للسلام الشامل والكامل مع هذا الكيان الغريب في كل تصرفاته منذ النشأة، قدموا ما يملكون من تنازلات، حتى وصلوا إلى الحرم الأكبر في «القدس» والعامل الذي سيحسم المعركة النهائية في هذا الصراع الدامي وقت السلام السامي. المحرمات الإسرائيلية الحاضرة على الصعيد العالمي الآن مجموعة في هذه اللاءات الثلاث، لا لدولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة مجاورة لإسرائيل، ولا لدولة فلسطينية عاصمتها «القدس الشرقية»، ولا لدولة إسرائيلية كبرى واحدة ينعم فيها الفلسطينيون جميعاً بنعمة الديمقراطية التي تروج لها في الشرق الأوسط الجديد صباح مساء، بل للديمقراطية التي لا مثيل لها في العالم العربي والإسلامي كافة. وتود إسرائيل اليوم أن تتيه دولة فلسطين في صحراء سيناء لأربعين سنة قادمة أو في الصحراء الليبية حين سقطت طائرة عرفات، أو في المسيسبي، حيث الأرض المقدسة الأولى لمشروع دولة إسرائيل، وهو ما سعى إليه هتلر لكي يتجنب شيئاً من شرورهم.