في عام 2009، أجرت جريدة «الخليج» الإماراتية حواراً مطولاً مع مدير مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية الأستاذ الدكتور جمال سند السويدي، حول عدد من القضايا الوطنية الحساسة، كانت جريئة وشجاعة وواثقة. وفي عام 2001 ألقى السويدي نفسه محاضرةً مهمة عن الإمارات والتركيبة السكانية. يمكننا مشاهدتها على «يوتيوب»، وكان للسويدي لاحقاً كثير من اللقاءات الصحفية مع صحف محلية ودولية، جاءت في خضم التطورات والأحداث التي عاشتها الإمارات ومحيطها، وفي أوج الاضطرابات التي عصفت بالعالم العربي منذ نهاية 2010 حتى اليوم. اخترت الحوار والمحاضرة المشار إليهما أعلاه لأنهما كانا فريدين من نوعهما، هما تقريباً المثال الممتاز لما يجب أن يتمتع به الكاتب والمثقف الموشح بالثقة، والشجاعة، والصدق، والصراحة، والإخلاص للوطن، والوفاء لقيادته. في السنوات الماضية تعرفت إلى عدد من كتاب وإعلاميين، أذكياء، متعددي المواهب، كانوا يلمعون كالشهب، ثم تبدأ مسيرتهم نحو الذبول ويخيم عليهم الصمت. لماذا؟ لأنهم غالباً على غير المألوف، حبهم لوطنهم مشوب بالتمرد، ولاؤهم لقيادتهم مضفور بالتفكير العلني، تقديرهم لما يحسن أن يفصح عنه، وما لا يليق التعرض إليه مختلف قليلاً. وفي الظروف التي يجب أن تكون كلماتنا موزونة، يخونهم التعبير. ولكن هذه الفئة المشاكسة هم من يبثون إلينا رسائل عما يعتمل في أذهان ونفوس آخرين يشابهونهم في التفكير ويقاربونهم في الاختلاف، ولا يجدون الأدوات ولا الشجاعة أو التهور مثلهم. هذه الفئة النادرة ولكن المخلصة (بطريقتها) هي ما نحتاجه اليوم. ليس لأن العالم من حولنا يتغير، وتغيره نابع في الأساس من انهيار الحواجز والأسوار التي حالت آلافاً من السنين بين اندماج البشرية وتداخلها، وليس لأننا منغمسون في لجة التحول الهائل في التواصل والمعلوماتية، ولذا يجب أن نكون منسجمين مرنين، وإنما لأنه غالباً ما تكون هذه النوعية من الكتاب والمثقفين والإعلاميين الجامحين هي ما نحتاجه في لحظات الخمول والركود والقلق والخوف من الخطل. أحياناً يمكر بنا التاريخ حيث يغرس بذرته لصدى تفكيرنا المكبوت، عبر هذه الأصوات- التي تبدو نشازاً وأحياناً تتراءى لنا خطراً على الانسجام الاجتماعي وثغرة ربما ينفذ منها العدو- ويجعل من هؤلاء وشغبهم وصداعهم مخاضاً وإرهاصاً لطريقنا نحو المستقبل. هذه الفئة من أبنائنا هم أحياناً يصعب ترويضهم، يطرحون أسئلة شكوكية حول جدوى سياساتنا، حول تحالفاتنا، وعن طريقة تعاملنا مع الأزمات، إلى حد كبير قد يتسببون بفوران الدم، ويتموضعون عن حسن نية في خط التماس والالتباس، متأرجحين بين الإخلاص والجحود، بين الطاعة والولاء وبين الجموح والشموس، ولكنهم غالباً هم من يمكنهم إحداث روح جديدة، ولون مختلف إذا أحسنا التعامل معهم ولملمة شعثهم، ومنحهم الثقة مرة ثانية وثالثة. ووضعناهم على الطريق. علينا أن نسبغ عليهم الثقة لأنهم شربوا من نبع هذه الأرض، وتناغوا رضعاً في أحضان أمهاتهم اللواتي رضعوا مع حليبهن عشق وطنهم، وترعرعوا تحت سمائه، وتقلبوا في عين قيادته وشبوا وبلغوا أشدهم وهم لا يجد عن هوائه ونخله وهجيره بديلاً ومحضناً.