شكّلت جزيرة كوبا، منذ انتصار ثورتها على الديكتاتور باتيستا، موضوعاً للرومانسية النضالية التي عبرت أرجاء العالم بأسره. فالثوار الملتحون الذين هبطوا بزعامة فيديل كاسترو على هافانا العاصمة، استقطبوا عواطف شبابية وعدالية واسعة. هذه العواطف وجدت ما يعززها في الصدام الذي ما لبث أن نشب بين الحكم الجديد في كوبا والولايات المتحدة الأميركية. فمن محاولة هبوط المرتزقة في «خليج الخنازير» إلى «أزمة الصواريخ» التي كادت تهدد العالم بالسلاح النوويّ وبحرب عالمية ثالثة، تراءى أن هناك قوة صاعدة لا يحول صغرها من دون تحديها أحد أقوياء العالم الذي يجاورها. هذا مع أن التحدي ذاك ارتبط بدعم طرف قوي آخر هو الاتحاد السوفييتي. زاد في إسباغ الرومانسية على كوبا الكاستروية شخص أرنستو تشي غيفارا، الطبيب الأرجنتيني الذي شارك في قيادة الثورة، ثم في حكومتها، قبل أن يغادر باحثاً عن مكان لثورته لينتهي به المطاف مقتولاً في بوليفيا. نما هذا التعلق الرومانسي في موازاة غضّ النظر عن نظام استبدادي تهيمن عليه عبادة شخصيّة كاسترو. وبالفعل استمرّ التكتّم على أحوال كوبا السياسيّة والاقتصاديّة المتردّية، إلى أن صعد ميخائيل غورباتشوف إلى قمة الزعامة السوفييتية أواسط الثمانينيات. وفي سياق تراجعه عن سياسة أسلافه، وانسحابه من بؤر المواجهة والتورط في الخارج، قلّص غورباتشوف الدعم الاقتصادي المقدّم لكوبا قبل أن يوقفه تماماً. هنا دخلت الكاستروية في مأزقها الكبير الذي لا يكفي للتغطية عليه النجاح الأوحد الذي أحرزته في تطوير قطاع طبي متطور وغني بخدماته للسكان. هكذا تعاظم قمع المعارضين من مثقفين ودعاة حقوق الإنسان، وظهر للنظام وجه كالح لا يوجد ما يجمّله. وفي 2006، وكان الهرم والمرض قد أقعدا فيديل، حل محله في قيادة الحزب والدولة شقيقه راؤول الذي شارك في قيادة الثورة، وتولى وزارة الدفاع منذ انتصارها عام 1959. لكنْ، ولئن كانت روسيا مصدر المتاعب التي عصفت بحكم الأخ الأكبر، فإن فنزويلا الشافيزية باتت مصدر المتاعب التي تعصف بعهد الشقيق الأصغر. ذاك أن الأزمة الاقتصادية والمالية الضخمة التي ضربتها في السنوات الثلاث الماضية، حرمتها من القدرة على مساعدة الكوبيين، وسد بعض الثغرات التي سبق أن خلّفها الانسحاب السوفييتي. في هذا السياق، قدّم راؤول تنازلات جزئيّة تجلّت في حقلي التحرير النسبي للزراعة والتجارة، وفي تسهيل الوصول إلى الإنترنت. وكان التغير الأبرز ما حدث في 2014 لجهة استعادة العلاقات الديبلوماسية الكاملة مع الولايات المتحدة. لكن بلوغ راؤول 86 عاماً واحتدام الأزمة الاقتصادية المصحوبة بنفاد صبر الشبيبة حيال نظام هرم وبالٍ.. كل هذا بات يلح على تغيير ما. وبالفعل قُرر، الأسبوع الماضي، إحلال المهندس الكهربائي ميغيل دياز كانيل (57 عاماً) في رئاسة الجمهورية محل راؤول. وعلى جاري الطريقة الكوبية، صوّت له جميع أعضاء «الجمعية الوطنية» (650 عضواً)، ولم ينافسه أي مرشح. وكانيل ليس من جيل الثورة الأول، وهو بالطبع ليس من عائلة كاسترو، إلا أنه قضى عمره في خدمة النظام ليشغل، منذ 2013، منصب نائب رئيس الجمهورية. أما الآراء القليلة التي ارتبطت باسمه فلا تسمح بالرهان على أن يكون هو غورباتشوف الكوبي، خصوصاً أن راؤول احتفظ بموقعه في قيادة الحزب الشيوعي الحاكم. لكنْ من جهة أخرى، سيكون من الصعب، وسط انهيار التجربة الكاستروية، ألا يطرأ تغير كبير على طبيعة السلطة في الجزيرة. وما من شك في أن الموقف الأميركي سيكون حاسماً في الحض على اتّباع هذه الوجهة أو على إحباطها. وجدير بالذكر، أن دونالد ترامب أعاد في العام الماضي فرض قيود في مجالي التجارة مع كوبا والسفر إليها، مما كان باراك أوباما قد ألغاه. في هذه الغضون يبقى شيء واحد مؤكد هو أن الكاستروية انهارت كواقع مثلما انهارت كموضوع رومانسي. إنها اليوم تنتظر من ينقذها بأن يوفر لها جنازة مهيبة.