هذا مثال من واقع الحياة لبسط فكرة من الواضح أنها مستعصية على فهم أصحاب القرار في الدوحة، فحين يقع خلاف بين إخوة ضمن أسرة واحدة، فهو يتفاقم بمجرد لجوء أحد أطراف الخلاف إلى المحكمة، وحتى لو اتفق الإخوة كلهم على رفع الأمر إلى القضاء ليقول كلمته فيه، فإن القطيعة أثر محتمل جداً حتى لو نجح القاضي في تسوية الخلاف فيما بينهم، إذ الخلاف في شكله الموصوف في الأوراق قد يكون على قطعة أرض، في حين أنه أعمق من ذلك بكثير، إذ هو حول الأخوة نفسها التي باتت في مهب الريح. وكلما فجر أحد الإخوة في خصومته، وزوّر، وحوّر، عرّض الأخوة لخطر التلاشي، ذلك أنه يحدث أحياناً أن يكون سبب الخلاف هو التباين في وجهات النظر، أو تصوّرات خاطئة من هذا الطرف أو ذاك، أو توقعات مبالغ فيها، أو جهل بطبيعة الحق ومقداره وطريقة احتسابه، وكل هذا يمكن إزالته عبر طرف ثالث يفصل في الأمر، فيعود دم الأخوة يجري في شرايين العلاقة من جديد، لكن الكذب في العلاقات الأخوية يفعل فعل الجلطة في حياة الإنسان، فشتان بين أن أختلف مع أقرب الناس إليّ حول مقدار الحق الذي تثبته لي وثيقة ما، وبين أن أزوّر الوثيقة نفسها وأطلب من القضاء الحكم لي بموجبها. دول الخليج العربية بطبيعة الحال ليست أفراداً في أسرة، لكن اعتبارات الدم والصلة والقرابة التي يضعها الأخوة في حسبانهم عند حدوث خلاف فيما بينهم، وتكون آمالهم متعلقة بها لتكون هي السقف الذي يحترمه الجميع، هي الاعتبارات ذاتها التي تحكم العلاقات بين الدول الخليجية الست، فالتجمع الخليجي ليس تكتلاً اقتصادياً، ولا تحالفاً عسكرياً، ولا تفاهماً أمنياً، بل هو في المقام الأول تجمّع أخوي كما في البيت الواحد، ثم تأتي بقية أبعاد العلاقة، الاقتصادية والعسكرية والأمنية وغيرها، كتحصيل حاصل. بدأت جرافات حمد بن خليفة تحفر مستنقع الدوحة منذ عشرين عاماً، وأخذ ومن معه طيلة تلك السنوات يصبون القاذورات فيه، حتى زلقت أقدامهم ووقعوا في الحفرة التي حفروها بأيديهم، ومع هذا، أُعطُوا الفرصة تلو الأخرى، ومُدّت إليهم الأيدي مراراً، لكن طبيعتهم المجبولة على التمرّغ في أوحال السياسة والمصالح الضيقة حالت دون رؤيتهم الحقيقة البسيطة: العلاقات الخليجية علاقات أخوة وليست أي شيء آخر، وفي اللحظة التي تصبح فيها شيئاً آخر، تنقطع فوراً. ثمة قائمة بثلاثة عشر مطلباً قدمت للدوحة لاستعادة علاقتها بالدول المقاطعة، وتقررت ستة مبادئ تكون أساساً لأي عملية وساطة في هذا الشأن، وما لم يدرج ضمن هذه المطالب والمبادئ هو سؤال واحد، تتفرع من إجابته جميع المطالب والمبادئ: هل أنتم أخوة لنا أم لا؟ مع كل يوم يمر، ومع كل كذبة جديدة، ومع كل إساءة إضافية، ومع كل إنكار متعمد للحقيقة، تغوص أقدام السلطة القطرية في المستنقع أكثر، ويصبح يوم خلاصها أبعد، ولا يجدي الدوحة هذا الطواف حول العالم بحثاً عن وسطاء، فإما أن تكون العلاقة أخوية، تحكمها اعتبارات الأخوة، أو لا تكون ثمة علاقة.