نشر الرئيس دونالد ترامب في الآونة الأخيرة تغريدة على تويتر قال فيها «الولايات المتحدة في ظل إدارتي قامت بعمل عظيم في تخليص المنطقة من داعش. أين... شكرا لك أميركا؟» فقد دأب ترامب على انتقاد الأميركيين لتقصيرهم في الشكر. والآن يوبخ ترامب العالم بأسره لنكرانه الجميل. وولع ترامب بالعرفان بالجميل ملمح معتاد في تعليقاته وكلماته العفوية. وحين يشكره الناس يروقه هذا، وحين يتجاهلونه، فإنه يسارع بانتقادهم. وطالب بالشكر العلني من حكومته وأعضاء الكونجرس ويريد أن يشكره الناس بسبب مكاسب البورصة وأوسع شركة انتقاداً لأنها لم تشكره حين وافق على مشروع يصب في مصلحتها. وفي ديسمبر الماضي، عبرت لجنة للعمل السياسي مؤيدة لترامب عن عرفانها بالجميل في إعلان عنوانه، «شكراً لك أيها الرئيس ترامب» لأنه، بين أمور أخرى، «جعلنا نقول كريسماس سعيد مرة أخرى». والعرفان بالجميل محوري في سياسات ترامب. وهو يطالب به مؤيديه وحكومته وكل المواطنين في الواقع. وهو يستخدم العرفان بالجميل ضد أعدائه ومنتقديه ليحرجهم ويخزيهم. ولم تعد عبارة «شكراً لك» خياراً، بل ضرورة يقسم ترامب الناس على أساسها. والواقع أن العرفان بالجميل كان دوماً أمراً سياسياً. وأحياناً اُستخدم لغايات سياسية حميدة، مثل الاحتفالات العامة بعيد الشكر. وفي غالب الأحوال استخدمه الزعماء السلطويون للسيطرة على المنتقدين وإحكام القبضة على السلطة. وإساءة استخدام فكرة العرفان بالجميل في السياسة يعود إلى روما القديمة التي اتقنت هذا الأمر. ففي هذه الإمبراطورية ذات البناء الهرمي في الاقتصاد والسياسة، كان عدد قليل من الناس في القمة يسيطرون على معظم الثروة والسلطة. وفي القاع، كان معظم الناس يعيشون على الكفاف. فما الذي جعل هذا النظام غير العادل في ذاته يصمد؟ كان هناك بالطبع الجيش المهيب، لكن كان هناك أيضاً هيكل اجتماعي قائم على صيغة معينة من العرفان بالجميل. فقد كان يُعتقد أن الإمبراطور هو «السيد والمنقذ» وامتلك كل شيء وكان المُحسن الذي يوزع هباته وعطاياه حسب رغبته. حتى لو كان المرء عبداً لا يجد إلا الخبز فإن هذا الخبز كان يعتبر هبة من الإمبراطور. وعطايا الإمبراطور لم تكن مجانية، بل كانت بمقابل. وحين الحصول على هبة من الإمبراطور، كان من المتوقع أن يرد المرء الجميل من خلال الجزية والعشور والضرائب والولاء والخدمة العسكرية. وإذا تقاعس المرء عن الوفاء بهذا الدين فإنه يعتبر ناكراً للجميل، وهي جريمة سياسية كان يُعاقب عليها بمصادرة الأملاك والسجن والنفي أو الإعدام. وكانت هذه العلاقة بين المحسنين ومتلقي الإحسان تجدي نفعاً، لكن فسادها كان سهلاً. فقد تكبدت الطبقات الدنيا ديوناً كبيرة من العرفان بالجميل لم يكن من الممكن أبداً سدادها، مما أدي فعلياً إلى استعبادهم. وحث فلاسفة قدماء المحسنين على ترك العرفان بالجميل الفاسد واللجوء إلى تقديم العطايا بالمجان بوازع الرغبة في الخير العام. وأكد هؤلاء الفلاسفة أن العرفان بالجميل النبيل يمثل فضيلة. وورثت المجتمعات الغربية الأفكار الرومانية عن العرفان بالجميل، لكن لم يفلح مسعى حكام العصور الوسطى في إضفاء طابع مسيحي على العرفان بالجميل السياسي. ورفض مفكرو التنوير، مثل جون لوك وآدم سميث الفكرة وجادلوا بأن العرفان بالجميل في مقابل الحصول على شيء يضر بالسياسة، ورأوا أن العرفان بالجميل النبيل ضروري للديمقراطية الأخلاقية. وظلت إغراءات العرفان الفاسد بالجميل تتسلل إلى السياسات الغربية. واستيعاب هذا يساعدنا في تفسير موقف دونالد ترامب، فقد صور نفسه دوماً على أنه محسن. وأثناء الجولة التمهيدية للانتخابات الرئاسية تفاخر بأنه لم يتلق هبات أو مساهمات من الخارج، ولذا لن تُخضعه ديون العرفان بالجميل. وانتقد الصيغ التقليدية من السداد، واعداً بتوزيع الهبات الاجتماعية على الأشخاص «الصحيحين»، والتخلص من نظام المستفيدين غير المستحقين وإعادة عملية الحراك إلى أعلى في هرم اجتماعي. وسيكون هو المحسن النهائي، دون شركات أخرى ودون سياسيين آخرين، وسيجعل أميركا عظيمة مرة أخرى في القمة. وهذا يفسر السبب الذي يجعل ترامب غاضباً من التحقيق بشأن التدخل الروسي. والإشارة إلى أنه استفاد من جهة ما، ناهيك أن تكون هذه الجهة حكومة أجنبية، تقوض صورته الذاتية باعتباره محسناً لا يمكن الطعن فيه. فهو لم يتلق شيئاً، ويعطي حسب رغبته ولمن يريد. أما «المتلقون»، مثل الفقراء والمهاجرين والنساء والملونين، فهم يعتبرون كائنات ضعيفة موضعهم الصفوف الدنيا في هرمه الاجتماعي، ويجري توبيخهم بالتقاعس عن رد جميل كرمه الأبوي. لكن هناك بديلاً لهرم رد الجميل هذا، وهو مائدة عيد الشكر التي تمثل إحدى الصور الراسخة لهوية الأميركي. ففي عيد الشكر، يحتفل الناس بالوفرة ويقومون على خدمة بعضهم، ويتأكدون من إطعام الجميع. والناس يعطون دون توقع الرد والبهجة تحل محل المديونية. هذه الرؤية الخاصة بالعرفان بالجميل من الفضائل حقا وتدعم الخير العام، وتوفر دورة للمساواة، وتعزز قوة المجتمع بدلاً من سياسة ترامب الخاصة بتقديم العرفان باعتباره واجباً. وما تحتاجه بلادنا هو رؤية جديدة لمائدة الشكر الأميركية. ديانا بتلر باس مؤرخة أميركية ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»