تصريحات الصديق عبدالملك المخلافي، وزير الخارجية اليمني، جاءت مفاجئة لكنها لم تصل إلى مستوى الصدمة كما قد يتصور البعض، لاسيما من فريق الصيد في الماء العكر. وكونها مفاجئة ترجع إلى أنها صدرت عن شخصية سياسية اتصفت طوال تاريخها بالموضوعية في العمل السياسي وبالتوازن الذاتي والأخلاقي، ذلك أني أعرف الوزير معرفة شخصية وأكنّ له كل التقدير، تدفعني إلى ذلك صلابته السياسية ودماثة أخلاقه، فهو ابن العروبة المتجذرة في وجداننا وهو ناصري محنك شكل مع الناصري الفذ المرحوم الدكتور عبد القدوس المضواحي رحمه الله ثنائياً صلباً اتسم بالثبات في وجه «صالح» لم يفرق بينهما سوى الموت. وإني أتابع بإعجاب نشاطه كوزير خارجية لليمن، وسط محنه وأزماته الحالية، وأراه متجاهلاً ما يدور حوله من حملات تشكيك لا تترك مجالًا لإنصاف أحد. فكل مسؤول يمني هو متهم بالفساد حتى بعد أن يثبت العكس! ولم أسمع عن نظافة أي مسؤول يمني من تهمة الفساد باستثناء وزير الدفاع المعتقل لدى الحوثيين القائد محمود الصبيحي، والشاهد أن نقاء يده هو سبب وقوعه في الأسر طوال سنوات الحرب. والوزير المخلافي صاحب تربية سياسية وتجربة نضالية تجعلاني أراهن عليه وأستمر في المحافظة على ثقتي بأن ما قاله لم يكن متسقاً مع رأيه الحقيقي، وبأن ضغوط الموقع قد تفرض على البعض أحياناً تبني مواقف لا تتسق بالضرورة مع قناعاتهم، والتي يتحتم أن تفصح عن نفسها في يوم من الأيام. أين وجه المفاجأة في كشف أوجه الخلاف في وجهات النظر بين حكومة الشرعية وبين التحالف؟ وكيف بدأت؟ وإلى أي مآلات تتجه؟ وما درجة خطورتها على مستقبل الدولة اليمنية المرتقب قيامها بعد توقف الحرب؟ هذه الأسئلة المشروعة تكتسب أهميتها من حقيقة أن الجميع يجب أن يحرص على استقرار اليمن بعد الحرب، وأن لا تترك هذه الحرب تلد كسابقاتها حرباً جديدة، وأن لا تُترك لأصحاب المصالح والاحتكارات فرصة العبث باليمن وجره مرة أخرى إلى حضيرة القبيلة وهيمنة المنتفعين وجنرالات الفساد الذين نهبوا عائدات اليمن طوال نصف قرن وها هم يمهدون الطريق للعودة إلى عهود الفساد. ولعل ما كشف عنه المخلافي، أتى كما قد يراه البعض، صورة من التململ الذي ابتدعته القوى الاحتكارية في الحكومة لإجهاض أي جهود للتسوية قد تؤثر على مصالحها الضاربة في التركيبة الاقتصادية لليمن. فقد شعر بعض المتنفذين في حكومة الشرعية أن الاستحقاقات السياسية والاقتصادية المترتبة على الحل الجذري للأزمة التي يتمنون أن تدوم، لابد أن تأتي على أوكار الفساد التي نسجوها في التربة الاقتصادية في اليمن عموماً وفي الجنوب خصوصاً الذي توجد بأرضه مصادر الثروة النفطية في حضرموت وشبوة وقريباً في أبين. وهناك إشارة ضمن تصريحات الوزير تأتي ضمن الحملة الخفية التي يقودها بعض المتخوفين على مستقبلهم في السلطة، لاسيما بعد أن خطى الأمير محمد بن سلمان خطوته الجبارة واستعاد مئات المليارات ممن تلاعبوا بالثروات العامة للمملكة وأصبح ظهر الفساد مكشوفاً في الجزيرة العربية، واتضح أن الدور لابد أن يأتي على شخصيات يمنية كبيرة، وأنهم لن يكونوا بأفضل من شخصيات كانت تملك الحصانة بفضل إنجازاتها مثل «لولا دي سيلفا» الرئيس البرازيلي الذي تم اعتقاله بسبب مبالغ ربما لا تتجاوز ما يحصل عليه سائق الرئيس في اليمن! إذن هي حركة استباقية وإيماءة إلى الاستعداد لخلق أزمة تحدث عاصفة من الدخان تعمي أبصار الذين يطالبون بالتحقيق في ذمم المسؤولين اليمنيين، والمخلافي منهم براء. ونتركها لما يمكن أن تكشف عنه التحقيقات وما يكتنفها من أسرار. ولعل إقحام دول التحالف في القضية مرده من وجهة نظر مسؤولي الشرعية إلى أن هذه الدول تمتلك الحقائق والمعلومات حول طبيعة الصراع وأسماء الفاسدين في السلطة وما يكتنفها من أسرار قد يؤدي إعلانها إلى فضح كثيرين ممن وضعوا مصالحهم فوق مصالح شعبهم حتى في أوقات الشدة وسعير الحرب. يكفي أن نتابع الاتهام بالفساد الذي وجهه المخلافي إلى القيادات الجنوبية التي ليس لديها علاقة بالإشراف على موارد الدولة، وهي تهمة تنم عن حالة من الترقب والقلق بين صفوف الفاسدين من تلاميذ مدرسة «صالح» التي تخرج منها هؤلاء، وهي مدرسة عتيدة في الفساد وتلفيق التهم للآخرين وتبرئة ساحة أصحابها الموسومين حقاً بالفساد. وربما كان موقفاً حكيماً من قبل المملكة أن تستبقي حكومة الشرعية في الرياض لتفويت الفرصة على الفاسدين للمضي في ممارسة هوايتهم في نهب الأموال. في اليمن غابة كثيفة من التناقضات لا تستقيم الأوضاع فيها ولن يسودها الهدوء ويحل فيها السلام دون التصدي الحاسم لمواجهة فساد الإدارة ومواجهة أمراء الحرب فيها. في اليمن فريق ضارب من الفاسدين الذين يحتلون مناصب رفيعة في الإدارة وفي السلطة. وحسب التجربة فإن هذا الفريق لا يهدأ ولا يرتدع ولا تعنيه مصالح بلاده ولا شعبه ولا جيرانه وليس لديه أي وازع من ضمير أو تقوى. وخوفي أن تأتي حكومة انتقالية تعود فيها جحافل «صالح» التي تربت على يده عقوداً طويلة، وعندها تذهب جهود مجلس التعاون الخليجي سدى، ويعود اليمن إلى عصر الفاسدين. نصيحة مخلصة مني بأن يتم تسليم السلطة لقيادة جديدة ليست ممن جربها اليمنيون وخذلتهم، تشكل حكومة انتقالية لفترة قصيرة يلتقط فيها الناس أنفاسهم ويعودوا إلى ديارهم ويتم فيها إصلاح الأمن وفرض القانون، وتعود للجنوب كرامته.. حينئذ أتوقع أن أجد صديقي المخلافي مصطفاً مرة أخرى مع من أحبوه ناشطاً نقياً لا يقف بجانب مليارديرات الفساد.