يمر العالم العربي الراهن بمرحلة استثنائية وصلت إلى مرحلة الحروب الداخلية، بما تعبر من اضطراب مفتوح. وإذا ضبطنا الأمر، فقد نتحدث في هذا المجال عن انتشار ظاهرة الحروب في معظم أقطار هذا العالم. فالجميع منها يشترك في مراحل انتقالية صعبة ومعقدة وغير مباشرة، في حين إن البعض منها يمر بحالات مركبة وصعبة قابلة للتحول إلى مرحلة هي أكثر من ذلك، أي قابلة للاشتعال. وربما كان أحد الأسباب الكامنة وراء ذلك كامناً في أنها وصلت - في مجموعها - إلى مراحل الانتقال إلى منظومة التنوير والحداثة في القرن التاسع عشر وما تلاه، لكن بعد ذلك وفي سياق القرن العشرين تعثرت بمحبطات تركت آثاراً مرة ظلت مستمرة نسبياً، إضافة إلى محبطات أخرى جديدة. لقد كان على عدة من المشاريع أن تقود إلى الوراء رغم البدء بمشاريع إصلاحية اجتماعياً وقومياً، فقد كان على سوريا أن تحقق، مع غيرها، مهمات تتصل بالتقارب القومي، إن لم نقل كذلك بالتوحيد القومي. كما كان على عدد من البلدان الخليجية أن تدخل بيسر في مشاريع وطنية تحديثية؛ إضافة إلى بلدان مغربية كانت في طور التهيئة للدخول في مشاريع تحديثية واعية. فلقد كانت هنالك بدايات واعدة، أطبق عليها من أوقفها عند وتائر أعطت محطات للعودة إلى الوراء، وللاستقرار على حدود بسيطة من التغيير، دون وعود جادة بالتغيير والتحديث والتقدم. فقد لاحظنا أن التحديث والتطوير أخذا حيزاً في تلك الحالة، دون متابعة السير الجاد إلى أمام. لكن ذلك قد أحدث خللاً في المسار إلى أمام. أول النماذج على هذا الصعيد تمثل في «مشروع» الوحدة بين مصر وسوريا، أي في بلدين أنهكتهما بقوة الانقلابات العسكرية، إلى جانب مشروع التوحيد القومي بين سوريا ومصر. وبشيء من هذا الطراز المتقدم، سجل ما حدث في اليمن بعد إسقاط النظام القبلي لفترة، لكن لتعود ثانية لتجد في السير نحو ما حدث تحت اسم الوحدة اليمنية في الشمال والجنوب، التي ستنفسخ مع التوجهات نحو هذه الوحدة أولاً، ونحو حرب وطنية مدمرة بين الفريقين ثانياً وذلك ما أنتج محاولة خجولة لإعادة الأفكار التوحيدية، التي سقطت تحت وطأة تفكيك العلاقات بينهما، بل وفتح أبواب الجحيم للدخول في حرب أهلية دمرت ما دمرت، وتركت الباقي يصول ويجول باتجاه الحرب الراهنة. وكذا، كانت الأفكار التوحيدية بين العراق وسوريا في مرحلة سابقة منصرمة، هذه الأفكار التي تصدعت خصوصاً مع بروز الأفكار الطائفية الشيعية التي يسعى أصحابها لتحويل المدار الفكري العربي إلى مدار إيراني شيعي. بل لقد شهدنا في فترة سابقة من يتحدث عن أن إيران الشيعية تملك عدة عواصم آخذ التشيع، هي بغداد ودمشق وبيروت... إلخ. لقد بدا الأمر وكأن المطلوب البدء بتشييع العالم العربي، بل إن هنالك من المشاريع ما يفوق غيرها، نعني إعادة بناء الوضع العربي عبر إخراج السكان الأصليين من مساكنهم، وإدخال سكان جدد إلى أماكنهم، أي العمل على تهجير سكان منطقة عربية من موقع سكنها، لإدخال آخرين أغراب فيها، كما يحدث مثلاً بالنسبة إلى دمشق أو حمص السوريتين، وإدخال آخرين أغراب «شيعة تخصيصاً» إليها. إن هذا الأسلوب القديم الجديد في تغيير البلدان، ذو طابع عبثي، لأنه أسلوب قاصر، وتعبير عن التخلف العقلي في رهاناته الطائفية، إضافة إلى أنه فاشل في مآربه. في هذا السياق، برزت مصطلحات جيواستراتيجية، لتغطية التغييرات، التي تطرأ على المناطق المتنازع عليها. وبرز مصطلح «سوريا المفيدة». وإذا كنا قادرين على تعميم ذلك المصطلح على بلدان أخرى، فإن المسألة ستعني، حينئذ، إمكانية تغيير جغرافياً تلك البلدان وفق مصالح الجديدة ها هنا تتأسف مصطلحات عالمية جديدة يراد لها أن تشرعن الجغرافيا العالمية الجديدة، ومن ثم، نجد أنفسنا أمام جغرافية جديدة يراد لجغرافيتها هذه أن تكون «مفيدة لمصالح القوى العالمية والمحلية المعنية القائمة». إن «الثقافة العربية الراهنة» ومعها «ثقافة الوطن العربي» يراد لهما أن يدخلا إلى «غرفة الإنعاش» لمواجهة الاستراتيجية الثقافية «المفيدة»؛ فهل تعبر الامتحان أم أنها ستخرجه من هذه الغرفة، لتواجه مصيراً «ما»؟! إنه الهزل الذي من الصعوبة أن يتحول إلى حد، جد مفيد!