تناولنا في مقالة الأسبوع الماضي نوعية النظام في إيران، وفهمنا أن اللعب على الوتر الطائفي مسألة وجود لإيديولوجية ولاية الفقيه، وأن تصدير مشروع الثورة الإيرانية لن يكون إلا من خلال استعمال أدوات مذهبية باستغلال وتجييش طائفي لنشر مبادئ ومرتكزات الثورة.. كل ذلك لتعزيز المصالح القومية الإيرانية، والتمركز داخل النظام الإقليمي وابتزاز الخصوم. إن «مبدأ تصدير الثورة» من أهم المبادئ التي صاحبت قيام الثورة الإيرانية، ويقصد به نشر المذهب الشيعي خارج حدود الدولة الإيرانية والعمل على القيام بثورات مشابهة في كل البلدان الأخرى. ففي إحدى خطبه، قال الخميني: «سنصدر ثورتنا إلى كل دول العالم»، مطالباً بتكرارها في البلدان الإسلامية الأخرى كخطوة أولى نحو التوحد مع إيران في دولة واحدة، وهذا ما يبدو جلياً في المادة 154 من الدستور الإيراني الذي يؤكد على «التزام إيران بالعمل على إقامة حكومة الحق في أرجاء الأرض وحماية الكفاح الشرعي للمستضعفين في أي مكان». وتستثمر إيران في دول «الهلال الشيعي»، أي البلدان التي تضم مكونات مذهبية شيعية كالعراق وسوريا ولبنان واليمن، وفي بعضها نجد تجمعات شيعية يدين بعضها بالولاء للمرشد الإيراني. وتشير التقديرات إلى أنهم يمثلون 55-60% في العراق، و20% في سوريا، و30% في اليمن، و25-35% في لبنان. وتعتبر الاثنا عشرية الطائفة الكبرى، تليها الإسماعيلية ثم الزيدية بنسب صغيرة، ويتراوح عدد الشيعة في العالم بين 150و200 مليون نسمة، بنسبة 10-13% من إجمالي عدد المسلمين في دول المعمورة، ويعيش منهم ما بين 115 و135 مليونا في قارة آسيا بما يعادل نحو ثلاثة أرباع عدد الشيعة الكلي، ويتركز معظم الشيعة (نحو 68-80%) في أربع دول: إيران (66-70 مليون)، وباكستان والهند والعراق (قرابة 90 مليون نسمة)، ويتركز وجود الشيعة الاثني عشرية بنسبة كبيرة في إيران والعراق وأذربيجان ولبنان، علاوة على باكستان والهند ودول آسيا الوسطى. ويعيش الشيعة الإسماعيلية في بعض مناطق الخليج وفي الهند، أما الشيعة الزيدية فيتمركزون في اليمن. وبمتابعة الشأن الإيراني الداخلي، ومطالعة ما تحت حشائش استراتيجيتهم نفهم جلياً أن الإيرانيين يفرقون بين الجيوبوليتيك الشيعي والهلال الشيعي، مصفقين للأول، نابذين الثاني باعتباره شيطنة من نتاج ما يسمى بأعداء الثورة الإيرانية، فتصدير الثورة عندهم لا يجب أن يتوقف في أي بلد بل هي عالمية، فهي في نظرهم يجب أن تجمع دول العالم الإسلامي كافة، لذلك نرى طهران تدعم جماعات سنية مثل حماس، فبنيتها إذن ليست الدولة وإنما الهوية. وقد مر هذا التأثير الشيعي بثلاث مراحل أساسية. الأولى: ضعفه منذ القرن التاسع عشر وحتى الثورة الإيرانية سنة 1979. الثانية: محاولة إحيائه (من الثورة الإيرانية 1979 حتى 2003 تاريخ سقوط العراق). الثالثة: صعوده عقب سقوط نظام صدام ورفع المراقبة عن شيعة العراق، مما مكن الإيرانيين من الحصول على العراق على طبق من ذهب، بما له من منافذ سمحت لهم بتوسعة نفوذهم في كل المنطقة وبنشر الفوضى. ولا يمكن أن يخفى على أي متتبع حاذق أن من بين عوامل صعود الجيوبوليتيك الشيعي في الاستراتيجية الإيرانية، فشل مبدأ تصدير الثورة وفشل نظرية أم القرى. والنظرية الثانية المسماة أيضا نظرية «دار الإسلام» سطرت منذ ثمانينيات القرن الماضي على يد محمد جواد لاريجاني والتي تقول: 1) بتحويل مدينة قم إلى عاصمة مقدسة للعالم الإسلامي بدلا من مكة المكرمة، 2) بتشكيل حكومة إسلامية عالمية واحدة للدول الإسلامية تكون إيران مركزاً لها، 3) وبأن يكون للولي الفقيه سلطة الولاية على الأمة الإسلامية جمعاء بعد السيطرة عليها.. لكن مع فشل تينك الاستراتيجيتين، جاء المنظرون الإيرانيون بأدوات جديدة تبدأ بما يسمى بالتشيع الناعم ثم تسييس التشيع، ثم التشيع الخشن، ثم إدماج التشيع بالنظم الحاكمة.