تثير الطريقة التي تعاملت بها الإدارة الأميركية في عهد باراك أوباما مع الهجوم الكيماوي في سوريا في أغسطس 2013، تساؤلات حول الاستراتيجية الأميركية تجاه التدخل العسكري لأسباب أخلاقية أو إنسانية بشكل عام. فهل كانت سياسة أوباما المتذبذبة حيال الأزمة السورية سياسة استثنائية، أم أن هناك إدارات أميركية أخرى تصرفت بتردد حين طُلب منها التدخل عسكرياً بمسوغات إنسانية؟ وهل لدى الولايات المتحدة استراتيجية واضحة حيال التدخل عسكرياً لأسباب إنسانية؟ وإذا كان الأمر كذلك فما هي هذه الاستراتيجية؟ في كتابها «متى تتدخل الولايات المتحدة الأميركية عسكرياً لأسباب إنسانية؟»، تفحص روبرتا هار، أستاذة السياسات الخارجية الأميركية والعلاقات عبر الأطلسي بجامعة ماستريخت بهولندا، الأساليب التفسيرية المستخدمة لشرح سياسة أميركا الحذرة حيال التدخل الإنساني، ومختلف الأسباب الكامنة وراء ذلك والنابعة من البيئتين الداخلية والخارجية. لكنها قبل ذلك تتوسع في شرح إطار أو «منطق التفسير السياسي» لجيو هاجان، ثم تعرض لحدثين إنسانيين استخدمت الولايات المتحدة فيهما التدخل العسكري، لتوضيح الطريقة التي يقدم بها إطار هاجان أفضل تفسير للسياسة الأميركية في هذا الخصوص، بغية شرح الاستجابة الأولية للحدثين، والتحول الذي حدث لاحقاً في هذه السياسة. ويقدم الكتاب لمحة مفصلة حول «التفسيرات النظرية لقرارات تدخل الولايات المتحدة في فترة ما بعد الحرب»، موضحاً كيف تم النظر إلى النموذج الواقعي في شرح السياسة الخارجية الأميركية، خلال عهد ما بعد الحرب العالمية الثانية، تجاه توفير الإغاثة في حالات الطوارئ باستعمال الوسائل العسكرية، باعتباره نموذجاً مناسباً تماماً، إذ ترتبط التساؤلات حيال القضايا الإنسانية بأفكار السيادة والمصالح الاستراتيجية الخاضعة لشروط نظام الحرب الباردة الثنائي القطبية. ويتضح أنه من بين 234 حالة استخدمت فيها الولايات المتحدة قواتها المسلحة في الخارج، خلال الفترة بين عامي 1798 و1993، كانت التدخلات الإنسانية الوحيدة على وجه الحصر في أوائل تسعينيات القرن العشرين. فقرنان من التاريخ الأميركي يشهدان في الغالب على أنه طالما كانت سلامة المواطنين الأميركية مضمونة في الدولة التي تشهد فظائع إنسانية أو انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، فإن الولايات المتحدة لن تتحرك عملياً ضد تلك الانتهاكات ولن تتخذ أي إجراءات لإيقافها. وكما يوضح الكتاب فإنه ابتداءً من ثمانينيات القرن الماضي، أخذت التساؤلات تثار حول فاعلية النموذج الواقعي المتعلق بالاستخدام السياسي للقوة. فعند تفسير استخدام القوة، يركز الواقعيون الكلاسيكيون والواقعيون الجدد على الوسط الخارجي، قائلين إن السياسة الخارجية كلها نتيجة لتحليل جيوسياسي يفترِض أنها في المقام الأول استجابة لمطالب وظروف موجودة في الخارج. وبحلول منتصف تسعينيات القرن العشرين، قدم الباحثون أساليب متكاملة وواقعية معدلة اشتملت على عوامل محلية حول القرارات السياسية المتخذة إزاء استخدام القوة في البيئة الدولية. كما أخذ الأميركيون العاديون يتبنون رأياً مفاده أن الواجب الأخلاقي يحتِّم وقف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان عبر التدخل بأي أداة من أدوات السياسة الخارجية، بما فيها القوة العسكرية. وبالوصول إلى «منطق التفسير السياسي»، أو نموذج هاجان الذي يتعمق الكتاب في شرحه، نجده يطرح إطاراً شاملاً ومتكاملاً في تفسير سبب استمرار متخذي القرار الأميركيين في تجنب التدخل لإنقاذ الأبرياء خارج الولايات المتحدة. ويصوغ إطار هاجان ديناميات عملية اتخاذ القرار في السياسة الخارجية، بما في ذلك بعض المخاوف الداخلية حيال القيم، ويرى أن متخذي القرار في هذه السياسة يختارون واحدة من الاستراتيجيات العامة الثلاث: ضبط النفس في المواقف الخارجية بتجنب الإجراءات المثيرة للجدل داخلياً، أو شرعنة النظام وسياساته، أو عزل السياسة الخارجية عن الضغط السياسي الداخلي. وعادة ما يختار القادة استراتيجية سياسية تلبي سياقاً وقضيةً معينين. وكما أن بعض القضايا تنطوي بوضوح على خطر أكثر من قضايا أخرى، فإن التدخل العسكري لدواعٍ إنسانية هو أحد أخطر خيارات السياسة الخارجية التي يمكن لزعيم أميركي اتخاذها. والأمر هنا لا يقتصر على مخاطرة الجنود الأميركيين بحياتهم لحماية أفراد في حالات ربما لا يكون فيها الأمن القومي الأميركي معرضاً للخطر بشكل واضح ووشيك، وإنما من شأن عمليات التدخل الإنساني أيضاً أن تعزز التباين الحزبي مع معارضي الرئيس الذين تقتضي مصلحتهم الخاصة عدم دعمه في حال استفحال المخاطر وتضاؤل احتمالات النجاح. ويأخذ إطار هاجان هذه العوامل الحزبية في الحسبان، ويرى أن أولوية الرؤساء الأميركيين تتمثل بامتلاك القدرة على التأثير في معارضيهم المحليين، لذلك فهم يميلون إلى اعتماد الاستراتيجية الحذِرة ذاتها حيال استخدام القوة العسكرية في التدخلات الإنسانية، ولأنهم جميعاً مرغمون على ممارسة اللعبة المزدوجة نفسها، متمثلة بضمان الاستمرار في الحكم، عبر حشد الدعم لسياسات خطرة في الوقت ذاته. وتعتقد «هار» أن الأميركيين يرتابون حيال التدخل الأجنبي، لاسيما إذا كان يعرض اقتصادهم وحياة جنودهم للخطر، لكنهم بالمقابل يرغبون في تصدير القيم الديمقراطية والإنسانية، ويريدون أن تقترن الالتزامات الأميركية الدولية بالبعد الأخلاقي. وهكذا نجد أن تضارب ميولات الشعب الأميركي وهواجسه يُنتِج «معضلة تَدخل» لدى صانعي السياسات، كما يتضح من حالتي البوسنة وليبيا. وفي حالة البوسنة تذكر المؤلفة أن الرئيس بوش الأب اعترف بأن انتهاء الحرب الباردة قد جعل من احتمالات الرد على أي فظائع جماعية ترتكب على الساحة العالمية أقوى، لكنه تدخل في الأزمة الأقل خطورة في الصومال، وتجنب التدخل في الأزمة الأشد خطورة في البوسنة. ورغم حديث بيل كلينتون خلال حملته الانتخابية عن عزمه على قصف الوحدات العسكرية الصربية إن تم انتخابه، فإنه تجنب التورط في البوسنة لمدة ثلاث سنوات، تفادياً منه لدفع أثمان سياسية كتلك التي اضطر لدفعها سلفه بوش الأب لتدخله في الصومال. ولم تصدر عن كلينتون أية ردة فعل إلا بعد أن تفاقمت الأزمة الإنسانية في البوسنة إلى مستويات قياسية، وأصبح التجنب مسألة لا يمكن الدفاع عنها، لأن الصرب لم يبدؤوا باستخدام حرب الحصار ضد المدن، كما أخذوا قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة رهائن لديهم. وقد بدأ التدخل باستخدام مكثف للقوة النارية عبر الضربات الجوية من علو مرتفع، ما جعل هذه الضربات أقل فاعلية وأكثر احتمالا لإحداث أضرار غير مقصودة، لكنها أقل خطورة على حياة الجنود. أما في حالة التدخل الإنساني الأميركي في ليبيا، فتذكر المؤلفة أن باراك أوباما الذي تبنى في حملته الانتخابية سياسة التدخل الإنساني الاستباقية، اعتمد بعد اندلاع الأزمة في ليبيا الاستراتيجية الأقل مخاطرة، وهي تجنب الإدلاء بتصريحات الإدانة الأخلاقية ضد القذافي. وعندما بدأ أوباما نفسه يشعر بالقلق من تحميله مسؤولية أخلاقية عن الفشل في منع حدوث مذبحة وشيكة، أخذ يستعمل مقاربة تعزل اختياره السياسي عن الضغوط السياسية المحلية. وفي خطوة عازلة إضافية اشترط أن يكون دعمه لفرض منطقة حظر للطيران مستنداً إلى إنشاء تحالف دولي ذي واجهة عربية. ولتأكيد حقيقة أن أميركا لم تكن هي من يقود العمليات عهد بأمر إعلان بدء العمليات العسكرية إلى الرئيس الفرنسي ساركوزي. وبعد المشاركة القوية في الموجة الأولى من الضربات الجوية ضد قوات القذافي، سحب أوباما المشاركة الأميركية فجأة، وقال: إن واشنطن «تسلم الناتو» زمام قيادة العمليات، وهي سياسة أشار إليها مسؤول في البيت الأبيض بمصطلح «القيادة من الخلف». ومن ذلك تخلص روبرتا هار إلى أن المصالح الوطنية والاعتبارات الأمنية كانت وستظل أولوية قصوى على الدوام، لكن المخاوف الأخلاقية والاعتبارات الإنسانية سيظل لها تأثيرها أيضاً في النشاط الخارجي الأميركي. كما سيستمر المرشحون لرئاسة الولايات المتحدة في التأكيد خلال حملاتهم الانتخابية على استعادة الزعامة الأخلاقية لأميركا في العالم، وعلى القول بأنه من مسؤولياتها الحيلولة دون حدوث أعمال وحشية جماعية.. لكن هؤلاء المرشحين لا يكترثون كثيراً بوضع آليات لتنفيذ هذه السياسة، بل ما يشغلهم أكثر من ذلك هو الفوز بالانتخابات وتحاشي أي تدخل ذي مخاطِرَ لإنقاذ حياة غير الأميركيين. محمد ولد المنى الكتاب: متى تتدخل الولايات المتحدة الأميركية عسكرياً لأسباب إنسانية؟ المؤلفة: روبرتا هار الناشر: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية تاريخ النشر: 2018