كيف يمكن الوفاء للقيم التي طالما آمن بها المرء ودافع عنها طوال حياته، حتى عندما يمكن لهذا الوفاء أن يتسبب في خسارته؟ في هذا الكتاب الذي طال انتظاره، يحكي جيمس كومي، المدير السابق لـ«مكتب التحقيقات الفيدرالي» (إف بي آي)، الدور التاريخي -غير المقصود- الذي لعبه في الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2016، والتي أسفرت عن هزيمة هيلاري كلينتون ووصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. وبالنسبة لليبراليين الذين لا يكنون كثيراً من الود لترامب، فإن قراءة كتاب كومي ستمثل تجربة مزدوجة الأحاسيس؛ فكومي كان بطلًا وشريراً في آن واحد في 2016. فمن جهة، أغلق التحقيق بشأن استخدام هيلاري لبريد إلكتروني غير مؤمَّن، ومن جهة أخرى أعلن إعادة فتحه قبل أسبوعين من يوم الاقتراع، وبذلك يكون قد أنقذ ترشحها وأجهز عليه معاً. وهكذا، فلا شك أن الفصول المتعلقة بهيلاري ستكون صعبة وقاسية على من كانوا يأملون في أن تصبح أول امرأة تتولى رئاسة الولايات المتحدة. غير أن كومي يبسط حججاً قوية لتبرير قراره، مظهراً كيف أنه كان في أحيان كثيرة يواجه سلسلة من الاختيارات الصعبة جداً. ففي ما يتعلق بالإعلان في أواخر أكتوبر عن إعادة فتح التحقيق مجدداً، يكتب كومي أنه كان إزاء بابين: أحدهما مكتوب عليه «تحدث»، والثاني «تكتم». ولو لم يكشف عن أن المحققين استأنفوا البحث في قضية بريد هيلاري الإلكتروني، وفازت في الانتخابات، لقال الأميركيون حينها، وعن حق، إنهم صوّتوا دون أن تكون في حوزتهم كل الحقائق، ولكان صمت الـ«إف بي آي» جعل من هيلاري رئيسة غير شرعية. بيد أنه حتى الأشخاص الذين يتبعون منطق كومي قد يجدون صعوبة في فهم دوافع القرار الحاسم الآخر الذي اتخذه في 2016. ذلك أنه إذا كان قرار الكشف عن إعادة فتح التحقيق صائباً في حالة هيلاري، فلماذا لم يكن صائباً في حالة ترامب؟ هنا يبدو حجاج كومي أقل إقناعاً. إذ يشرح أن تحقيق ترامب -روسيا كان لا يزال في مرحلة مبكرة، وأن «المكتب» لم يكن يرغب في تنبيه المشتبهين الممكنين. لكن بالنظر إلى حجم الرهان، وعواقبه، فلا شك أنها مبرراته غير قوية بما يكفي. والحقيقة، كما يعترف كومي، هي أنه وآخرون -منهم الرئيس أوباما- كانوا يعتقدون خطأ، مثلما اتضح لاحقاً، بأن هيلاري كانت في طريقها للفوز بالانتخابات لا محالة. وهذا ما دفع أوباما إلى عدم الكشف عما كان يعرفه حول التدخل الروسي في الانتخابات: إذ لماذا يُضعف ثقة الأميركيين في نظامهم الديمقراطي في وقت يبدو أن تلك الجهود الروسية لن تُحدث فرقاً كبيراً في كل الأحوال؟ وهذا الافتراض نفسه أثّر في قرارات كومي. أما في ما يتعلق بترامب، فإن كومي لا يستطيع إخفاء كرهه له، والصورة التي يرسمها له صورة قاتمة جداً: صورة ترامب يتحدث بشكل منفرد في ما يشبه المونولوج، ولا يترك المجال لأحد ليقول كلمة، صمت يعتبره الرئيس الجديد بمثابة موافقة. وصورة رئيس يعاني من أنا متضخمة. فمثلا عندما كان كومي يحضر اجتماعات المكتب البيضاوي مع أوباما أو بوش الابن، كان الرئيس يجلس مع الحضور دون تمييز. أما ترامب فيبقى خلف مكتبه الكبير، كما لو كان متربعاً على عرش وخدمه يحيطون به، وهو ما يعزوه كومي إلى انعدام الثقة بالنفس، حيث يرى أن رجلًا واثقاً من نفسه ليس بحاجة لإظهار وتأكيد مرتبته بمثل هذه الطريقة. بيد أن أكبر وأخطر انتقاد من كومي لترامب هو اتهامه له بـ«الانفصال عن الحقيقة» على خلفية محاولاته المفترضة للتأثير على التحقيق في اتصالات مايكل فلين، مستشار الأمن القومي السابق، بالروس خلال الحملة الانتخابية. وعبر ثنايا الكتاب، يكشف كومي تفاصيل لقاءاته بترامب ويقدم ملاحظات مذهلة حول المزاج الرئاسي. فبوش كان يستطيع المزح، وغالباً على حساب أحد الأشخاص. وأوباما كان يضحك بسهولة، لكنه لم يستعمل الضحك أبداً للحط من أي أحد. أما ترامب، يقول كومي، فلا يضحك أبداً. يقول: «لا أتذكر أني رأيته مرة يضحك، أبداً.. وعجزه الواضح عن القيام بذلك.. هو حقاً أمر محزن في زعيم، ومخيف بعض الشيء في رئيس». محمد وقيف الكتاب: ولاء أعلى.. الحقيقة والأكاذيب والزعامة المؤلف: جيمس كومي الناشر: فلاتيرن بوكس تاريخ النشر: 2018