كم مرّة يمكن أن يتجاوز النظام السوري الخط الأحمر الدولي قانونياً وإنسانياً للتفكير بمحاسبته؟ هناك لعبة دولية في سوريا وفّرت لرئيس النظام إمكان البقاء في منصبه لسبب واحد واضح: بديله أحد اثنين، إمّا أنه الفوضى أو أنه غير جاهز. فماذا يريد أكثر من ذلك؟ أن يُعفى من أي اتهام بما في ذلك السكوت عن استخدامه السلاح الكيماوي، وأن يُعاوَد التعامل معه كما قبل عام 2011 ولا يُطرح أي تشكيك في «شرعيته». فوق ذلك يريد من العالم أن يقبله مع حليفه الإيراني باعتبارهما شريكَين في «الانتصار» على الشعب السوري. هذا كثير طبعاً، فالمجتمع الدولي بالكاد تقبّل الأمر الواقع المتمثّل بالوجود الروسي الذي قدّم نفسه كعنصر حل للمشكلة فإذا به يتحوّل عنصر تصعيد وتأزيم بل شريك في انتهاكات بالسلاح الكيماوي. كما بعد ضربة مطار الشعيرات ردّاً على قصف خان شيخون بغاز السارين، كذلك بعد الضربات الأميركية البريطانية الفرنسية، هتف النظام السوري بـ«الانتصار» على «العدوان الثلاثي»، وشاركه النظام الإيراني وأبواق جماعة «الممانعة». وقال رئيس النظام إن «العدوان يزيدنا تصميماً على محاربة الإرهاب»، أي أنه تجاهل ما خسره بفعل الضربات الثلاثية ورفض الرسالة التي أرادت توجيهها إليه، وأهمها ألا يعاود قتل أبناء شعبه بالغازات السامة، فهو يُنكر ذلك وحليفه الروسي ينفي وحليفه الإيراني لا يكترث بالوسيلة بل يهمه الاستمرار في القتل واقتلاع السكان من مناطق تريد طهران تفريغها لتغيير التركيبة السكانية فيها. غير أن موسكو قد تعمل على ضبط تهوّرات النظام، أقلّه لئلا تثبت عليها تهمة التغطية على مخزون كيماوي أخفاه النظام رغم أنها التزمت منذ اتفاقها مع واشنطن عام 2013 (جرى توثيقه في القرار 2118) بتدمير هذا السلاح وإخراجه من معادلة الصراع السوري. الواقع أن عدم احترام الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما «الخط الأحمر» الذي حدّده، وهو في أي خط قانون دولي وليس أميركياً حصرياً، برهن لروسيا والنظام السوري وإيران، على أن أي انتهاكات صارت ممكنة وتمكن معالجتها بتسويات بين الدولتين الكبريَين. في 2013 عوقب السلاح ولم يُعاقَب المجرم الذي استخدمه، ورغم أن عملية تدمير الترسانة الكيماوية مضت إلى غايتها، فإن الجميع وبالأخص الروس والأميركيين ظلّوا مدركين أن النظام لم يُجَرّد تماماً من هذا السلاح، بل عمد إلى استخدامه عشرات المرّات في العام الذي سبق التدخل الروسي المباشر والأعوام التي تلته، علماً بأنه ولا في أي مرّة كان في خطر داهم يضطرّه للجوء إلى الكيماوي دفاعاً عن نفسه، لا في معظمية الشام (2013) ولا في خان شيخون (2017) ولا أخيراً في معارك الغوطة الشرقية، وتحديداً في دُوما. ومع أن كلا من الوقائع الثلاث الرئيسية هذه أدّى إلى تحريك المجتمع الدولي، فإن النتائج العملية لم تتوصل إلى اختراق الأزمة السورية أو تغيير ميزان القوى على الأرض، والسبب في ذلك أن روسيا تلعب لعبة النظام وإيران وليس لعبة «دولة عظمى»، أي أنها أصبحت طرفاً يستغلّ الصراع الداخلي منصة لانتزاع مصالح خارج سوريا ولاستدراج الولايات المتحدة إلى صفقات لم تُبدِ استعداداً للبحث فيها. في عام 2013 تضمّن القرار 2118 نص بيان جنيف الذي أوصى بأن يبدأ الحل السياسي بهيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات، لكن مسيرة التفاوض والضغوط الروسية العسكرية أضعفتا هذه الآلية للحل. وفي عام 2017 توصّل الأميركيون والروس غداة ضرب مطار الشعيرات إلى تفاهمات جديدة على تحريك المفاوضات وفقاً لصيغة تخلّت فيها واشنطن عن بعض شروط الانتقال السياسي، وقيل إنها أرادت اختبار قدرة موسكو على التأثير في النظام لينخرط في التفاوض. لكن ما حصل فعلاً هو أن روسيا استغلّت ذلك لاختطاف الحل السياسي إلى «مسار استانا» وإضعاف «مسار جنيف». ليس واضحاً بعد الضربة الأخيرة لمجموعة من الأهداف في سوريا ما إذا كانت الدول المعنية ستعمل معاً من أجل إنهاء الحرب. فالولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا قالت إنها سعت إلى احتواء خطر السلاح الكيماوي من جهة، وإلى تحريك استراتيجية البحث عن حل سياسي من جهة أخرى. أما نظاما دمشق وطهران فتوعّدا بالردّ على «العدوان»، ربما بضربة كيماوية جديدة على سبيل التحدّي، فيما لم تُبدِ روسيا أي إشارة إلى استعدادها لمراجعة نهجها، علماً بأنها كانت قد فتحت المجال الجوي السوري الذي حدّدته الدول الثلاث لتنفيذ ضرباتها العقابية للنظام، فيما واصلت الدفاع عنه وتبرئته من تهمة استخدام السلاح الكيماوي.