كانت سوريا هي آخر الدول التي عصفت بها رياح «الخريف» العربي المشؤوم وأطولها من ناحية مدة الأزمة التي تمر بها، ومع استعصاء مزمن في الخروج من هذا المنزلق، فهذه السنوات السبع العجاف التي عاشها الشعب السوري، من خراب ودمار وانعدام أمن، وقتل مئات الآلاف وتشريد الملايين من البشر بفعل ما مر بهم من مجازر وحروب أهلية وتوافد آلاف الإرهابيين وتغول مليشيات تتبع أجندات طائفية، وغيرها من الحركات التي جعلت الأزمة تصل الى هذا الحد من الدموية والعبثية والمجازر الجماعية على الهوية بالبراميل المتفجرة والأسلحة الكيماوية. وقد جاءت الآن بارقة أمل جديدة باحتمال انفراج الأزمة بعد الضربة الأخيرة التي نفذها التحالف الثلاثي(الأميركي- البريطاني- الفرنسي)، وعلى رغم محدودية هذه الضربة إلا أنها آتت أكلها كما خطط لها، وأوصلت الرسالة كما أريد لها أن تصل، وحققت الأهداف المطلوبة منها بمنطق القوة الحازمة الحاسمة. وقد يكون أهم ما في تلك الحملة السريعة هو أنها كانت بمثابة عملية جراحية موضعية دقيقة، وقد تمت دون وقوع ضحايا مدنيين، وركزت على أهداف محددة حتى تكون الرسالة واضحة. والرسالة الأولى في هذه الضربة أنها جاءت كاختبار لرد الفعل الروسي والإيراني، فهذان الطرفان حاولا أن ينأيا بنفسيها عن تلك الضربات، وكأنهما لم يوجدا على الأراضي السورية، بالرغم أن التحالف الثلاثي قصف قواعد عسكرية تابعة لألوية الحرس الجمهوري اليد الضاربة للأسد وقواعد إيرانية في سوريا. وقد تبنى الروس رواية تقول إنه تم اعتراض 73 صاروخاً «توماهوك» من أصل 100 أطلقت من البوارج الحربية، وذلك على رغم عدم اشتراك الدفاعات الجوية الروسية أبداً في صد الهجوم. والرسالة الثانية التي أرادها الأميركان أن تصل هي أن الدول الثلاث لا تنقصها العزيمة، ولا الإرادة، وقادرة على حشد أساطيلها وطائراتها عند اللزوم كأكبر قوة يتم تجميعها في الشرق الأوسط منذ حرب العراق، وقد أنفقت قرابة الـ300 مليون دولار، وهذا التحالف الأميركي البريطاني الفرنسي الذي كان يعيش صراعاً ممتداً مع روسيا منذ ضم الأخيرة لشبه جزيرة القرم عام 2014، يريد التأكيد مرة جديدة أنه هو الطرف المسؤول عن حماية القوانين والأعراف الدولية المتمثلة ومحاسبة من يستخدم السلاح الكيماوي، وغيره من أسلحة الدمار الشامل المحظورة دولياً، وإظهار روسيا على أنها دولة مارقة تعطل بحق النقض «الفيتو» في مجلس الأمن إنفاذ قرارات المجتمع الدولي وتعرقل بذلك محاسبة نظام الأسد، وعلى عكس ما تقول فلم تأتِ إلى سوريا بطلب من «حكومة شرعية»، وإنما هي مسؤولة عن مساندة نظام يقتل شعبه بالأسلحة الكيماوية، وذلك ما دعا الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا للجوء إلى مجلس الأمن، ابتداءً لإظهار «فيتو» موسكو للدفاع عن «الأسد» وتعطيلها تحرك العدالة الدولية ضده، رغم أن التحالف الثلاثي كان قادراً منذ البداية على توجيه ضربات تأديبية على غرار ضربة مطار الشعيرات ودون كل هذه السجالات في مجلس الأمن، ولكن الرغبة في الانتقام من بوتين كبيرة، والأمر أبعد من مجرد تأديب الأسد فقط، وخاصة بعد تصاعد حدة التوترات بين موسكو وبريطانيا والمعسكر الغربي عموماً في الفترة الأخيرة على خلفية تسميم العميل الروسي المقيم في لندن سيرجي سكريبال. والرسالة الثالثة هي أيضاً لبوتين، وقد شعر بالانتشاء بإنهاء ملف الغوطة الشرقية لصالحه، بأنه ليس صاحب الكلمة الأخيرة في سوريا، وأن الحجة التي دخل إلى الأراضي السورية بالاستناد عليها (دعوة الحكومة الشرعية) ليست مقبولة، فالسلطة الحاكمة بدمشق ما هي إلا نظام قاتل يستخدم الكيماوي ضد شعبه، ولا يمكن فرضه على المجتمع الدولي من جديد تحت وقع التقدم العسكري والميداني، وثمة أسباب كثيرة لتبرير عملية إسقاطه عسكرياً في حال لم تتم العودة إلى مسار جنيف الذي ترعاه الأمم المتحدة والعالم، والذي من المفترض أن تنتج عنه توليفة تراعي مصالح الجميع. ويمكننا تلمس ذلك من خلال الأهداف التي تم ضربها، والتي لم تقتصر على مراكز إنتاج وتخزين الكيماوي بل امتدت أيضاً لتشمل مقرات سيادية ومواقع مسؤولة مباشرة عن حماية قصر الأسد كمطار المزة العسكري الذي يضم مركزاً رئيساً لفرع المخابرات الجوية أهم الأذرع الأمنية عند النظام، وكذلك كتيبة الدفاع الجوي في جبل قاسيون، واللواء 105 التابع للحرس «الجمهوري». وأخيراً من المثير في هذه الحملة أنها أطلقت حرباً إعلامية ونفسية ضاغطة ضد ساسة دمشق وموسكو وطهران قبيل الضربة من واقع تغريدات الرئيس ترامب التي حبست أنفاسهم، وجعلتهم لا يستطيعون تخيل حجم الكارثة التي ستحل عليهم. وفي المقابل، نشر النظام مقطع فيديو لبشار الأسد يتصرف صبيحة الهجوم، وكأنه لم يكن هناك قصف على مواقع استراتيجية لنظامه المتهالك، ويظهر في مشهد تمثيلي، وهو يتسكع في أروقة قصره وكأنه ذاهب لعمله للتقليل من أهمية تلك الضربة، والتخفيف من آثارها المعنوية على المعسكر الذي ينضوي تحته. ولكن الحقيقة أن الضربة كانت مؤثرة، ودقيقة، كما أن الرسائل المجنحة التي حملتها صواريخ وطائرات التحالف كانت بالغة القوة والدلالة، وسيكون لها ما بعدها، لجهة تحجيم وتقزيم استفراد النظام وداعميه بالمدنيين العزل، وعربدتهم وتغولهم وتغلغلهم وتدخلهم في أكثر من بؤرة توتر في المنطقة كلها.