في مثل هذه الأيام العصيبة التي تمر بالعالم العربي، وفي سوريا خصوصاً، نستعيد ذكرى الوحدة بين مصر وسوريا (الجمهورية العربية المتحدة) التي قامت عام 1958. لقد جسّد ذلك الحدث مثالاً ذا أهمية مرموقة بالنسبة للبلدين. فالكيان الوحدوي الجديد مثّل تحولاً استراتيجياً بالنسبة لهما وللعالم العربي عموماً. لم يدم ذلك الحدث طويلاً، لكنه شكّل درساً عميق الدلالة للبلدين. ورغم أن الوحدة بين مصر وسوريا أتت، فإنها لم تأت بالحكمة السياسية التي تنقذ الوطن الموحّد وتسهم في لملمة المشكلات واحتواء الأخطاء. لقد كان الخطأ الأكبر هو إلغاء الحياة السياسية العامة، حيث بدأت الأخطاء الأخرى تفعل فعلها إلى أن تكوّن تيار كبير معارض للوحدة نفسها، استغلته التحركات المضادة داخل الجيش السوري. كان عبد الناصر رجلاً وطنياً بلا منازع، لكنه اعتقد أن الحياة السياسية الحزبية تمثل وسيلة لتفكيك الوحدة، ما جعله يقف ضدها، مما كلّف الكثير، وكان من نتائجه بعدئذ ظهور «الدولة الأمنية». لقد كانت خسارة كبرى للجمهورية العربية المتحدة، حيث أخذ التاريخ حقه مع تفكيك الوحدة عبر تعاظم الاستبداد بما أنتجه من فساد وإفساد، وإهمال شنيع لحقوق الوطن والشعب، ما أسس لعودة دولة الفساد والإفساد، إضافة إلى تأسيس عوامل الانقلابات العسكرية التي انتهت معها الحياة السياسية وتوَّجها «نظام التوريث» الذي حوّل سوريا إلى مُلكية خاصة أو بنية عصبية مغلقة على المبدأ الأساسي للنظام الجمهوري، وهو مبدأ «التداول السلمي للسلطة». في هذه الوضعية المعقدة، يكثر دعاة الانغلاق حيال «الحكمة السياسية»، التي قد تؤسس لمبدأ «حل المشكلات حسب قاعدة الممكن المحتمل»، لكن من طرف آخر، نلاحظ أن هناك من يعتقد بأن الحل يكمن في التغيير السياسي على أساس ذلك «الممكن المحتمل»، الذي يحفظ للجميع أدوارهم. وفي هذا السياق تبرز أهمية التوافق الوطني الحكيم، متمثلاً في مبدأ تحقيق الأهداف، وفق «الممكن المحتمل»، الذي يحافظ على وحدة الوطن وعلى شمله معقوداً، ضمن أفق تاريخي مفتوح وباعث على الأمل. إن المطلوب في هذا السياق لا يتمثل في التطلع دائماً إلى الحدود التامة الناجزة في وقت ما، بل ما يمكن أن يتطور ويتوسع لاحقاً، بمعنى أن المطلوب مرتبط بعمل قادم قد يأتي متأخراً في صيغته التامة، لكنه يأتي وفق منطق تدرّجي سليم. وهنا قد يتضح أحد أسباب إصرار الزعيم ناصر على عدم الإقرار بوجود سياسات حزبية تامة، لما رآه من أخطاء وقعت فيها المجموعات الاجتماعية في سياق نشاطها السياسي. وهذا يمكن النظر إليه كحالة أو درجة أولى من الحقيقة السياسية، خصوصاً في ما كنّا ننظر إليه كنتاج لأوضاع اجتماعية عالمثالثية. إن الوضعية التي واجهها عبد الناصر، وتمثلت في اضطراب بنية الحياة السياسية، في مصر وسوريا معاً، جعلته يشكك في إمكانية بناء وحدة بين البلدين على أساس تعددي، قادته إلى رفض الحياة السياسية عموماً، ما جعله يفرط في ذلك الرفض. لقد كان فصلاً من فصول العمل المشترك بين القطرين، عبر إخراج معادلة التوحيد بينهما من موقع الاحتمال في حينه: لم يكن النظر إلى المسألة في احتمالاتها القادمة المفتوحة، ما قاد إلى التفريط بالمسألة السياسية ككل. إن مثل ذلك الموقف يبدو قائماً الآن من خلال عدم الإقرار باحتمال تغير الأوضاع في سوريا إلى الأمام، وحيث يكون الأمر كذلك، فإنه يمكن أن يقود إلى التفريط بوجود احتمال ديمقراطي للخروج من الإشكال السياسي!